مشكلة القمح و الطريق المفروش بالنوايا الطيبه

المصدر: flickr.com/nassernouri/

أي حديث عن أزمة الغذاء في مصر، وبالتبعية المشكلة الهيكلية في ميزانية الدولة و ميزان المدفوعات وتأثيرهما علي سعر صرف الجنيه، لابد أن يمر عن طريق سياسات الزراعه والدعم التي تبنتها الحكومات المصرية المتعاقبة. هدفنا هو توضيح تشابك هذه المشاكل، و كيف أن مبدأ دعم سعر الخبز هو من الأسباب الرئيسية للمشكله الاقتصادية الراهنة

دعنا نبدا بالاتفاق أن الهدف الرئيسي لأي غذاء هو إمداد البشر بالطاقة اللازمة للحياة، والعمل، الخ. علميا، تقاس تلك الطاقة بالسعرات الحرارية (الكالوري). يحتاج معظم  البشر لأغذية أساسية كثيفة بالكالوريهات كمكون رئيسي لواجباتهم. تتنوع هذه المكونات الأساسية حول العالم باختلاف المحاصيل المحلية. في جنوب شرق اسيا واليابان، يعتبر الارز هو المكون الأساسي لمعظم الوجبات. يعتمد الأمريكان على القمح والذرة بشكل رئيسي في معظم أغذيتهم. بينما تعتبر الكاسافا المصدر الرئيسي للطاقة في أنحاء كثيره من أمريكا اللاتينية وافريقيا.

 تدخل الحكومة في تحديد الاسعار سيؤدي دائما إلى مشاكل.. الانظمة الزراعية والغذائية معقدة جدا، والتدخل في جانب من جوانبها سيؤدي دائما إلى انعاكسات وردود أفعال غير متوقعه. الحل الوحيد هو تراجع الحكومة عن دور الموفر للغذاء

في معظم هذه الاماكن، لا تحدد الحكومات الغذاء الرسمي للبلد.  تختار الشعوب غذائها الاساسي  بشكل أكثر تلقائيه: يأكل الناس المحاصيل التي اعتادوا أن يزرعوها. وعندما يصبح ما يزرعوه غير كافٍ لسد احتياجاتهم، فانهم بحكم العاده قد يلجأون الى استيراده. ويستمرون في الاستيراد حتي يصبح سعر هذا الغذاء مرتفعاً مقارنة بالبدائل الاخرى محليا أو عالميا وعندها  يبدأون في استبداله بالبدائل الارخص، وتتغير العادات تدريجيا حتي يصبح  البديل هو الغذاء الأساسي. بمعنى اخر فان قوى الاسعار هي التي تحرك الأمزجة في اتجاه الغذاء الاكثر اقتصادية ومناسبة للمجتمع

بالطبع ليس هذا هو الوضع في مصر. فمنذ الحرب العالمية الاولى، بدات الحكومة المصرية في دعم الاغذيه الرئيسية لمواجهة زيادة الاسعار بسبب الحرب. الهدف الرئيسي لسياسات الدعم هو في الحقيقة تعطيل قوى الاسعار (عن طريق تثبيت سعر الخبز) وبالتالي تعطيل حركة استبدال القمح ،أو تقليل الاعتماد عليه، ،كمصدر رئيسي للسعرات الحرارية للمصريين لصالح بدائل أخرى أرخص واكثر توافرا مثل البطاطس التي تعتبر مصر من أكبر منتجيها

وبالاضافة الي التكلفة الباهظة لاستيراد احتياجاتنا من القمح (3.8 مليار دولار في 2011) فان استمرار الاعتماد عليه كالمصدر الغذائي الرئيسي والسياسات المصاحبة لذلك مثل دعم مزارعي القمح المحليين عن طريق شراء انتاجهم بسعر أعلى من الاسعار العالمية يؤدى إلي عدة مشاكل، منها على سبيل المثال:

  1. اهدار الموارد المائية: يعتبر القمح من المحاصيل كثيفة الأستخدام للمياه مقارنة بقيمته الغذائية. تشير التقديرات العلميه الي أن لتر ١ من الماء يكفي لزراعة كميه من القمح تنتج 2.2 سعرات حرارية عند أكلها، بينما يكفي لتر١ من الماء  لزراعة كميه من البطاطس تنتج 5.5 سعرات حرارية. أي أنك قد تحتاج إلى ثلث كمية المياه لإنتاج نفس القيمة الحرارية في القمح إذا زرعت البطاطس بدلا منه. بالنسبه لدولة محدودة الموارد المائية كمصر فلابد أن نقف عند هذه المعلومه
  2. زيادة البطالة الزراعية: القمح هو من الزراعات السهلة ميكنتها، وبالتالي الاستغناء عن العنصر البشري فيها، أو تقليله الي حد كبير. تقدر الدراسات نسبة المدخل البشري في تكلفة زراعة فدان من القمح بحوالى 4%، بينما يمثل العامل البشري حوالي 20% من تكلفة زراعة فدان من البطاطس (المحاصيل النقدية كالفراوله تحتاج عاملاً بشرياً أكبر). التركيز على زراعة لا تمثل القيمه المضافة البشريه فيها إلا نسبة ضئيلة، معناه نسبة بطالة أعلى وفقر أكبر بين المزارعيين (وينعكس هذا على احتياج أكبر إلى الدعم، وهكذا)
  3. تضاعف الاستهلاك وتفاقم المشكلة: الدعم لا يوجه فقط لتقليل أسعار الخبز الكافي لتغطية الاستهلاك الطبيعى، ولكن لعدم وجود أي قيود على الاستهلاك، فان تقليل السعر في الحقيقة يؤدي إلى زيادة الاستهلاك بشكل كبير (سواء في الاستخدام البشري أو حتي كعلَف لبعض الحيوانات)، ويسهل الهدر، مما يتسبب في الدخول في دائرة مفرغه من الاعتماد على الدعم وبالتالي يزيد من صعوبة اتخاذ القرار السياسي لوقفه

لمحاولة تجاوز المشكلة لجأت الحكومأت المصرية (وبوازع من التوجهات اليسارية والقومية المنتشرة وسط الأكاديميين والسياسيين المصريين) إلى محاولة التدخل لتشجيع زيادة الإنتاج المحلي على حساب المحاصيل الاخري. فعلى سبيل المثال: في فبراير 2013 قامت الحكومة بزيادة السعر الذي تشتري به القمح من المنتجين المحليين لمطاحنها إلى 400 دولار للطن، وهو سعر أعلى بكثير من السعر العالمي، 300 دولار للطن  (و يبدوا أن هذا لم يكن كافيا لارضاء بعض اليساريين). غير أن تلك “الحلول” لا تواجه المشكلة الحقيقية وتنكر الدرس المهم.

 مشكلة القمح في مصر هي مشكلة استهلاك وليست انتاج. فمعدل استهلاك القمح في مصر بلغ 150 كيلو للفرد في 2011 وهو رقم أعلى من كبار منتجي القمح كفرنسا (102)، أمريكا (86)، وروسيا (137)، وهي الدول التي تعتبر دول “رفاهه”. بالاضافة إلى ذلك فان إنتاجية هكتار القمح في مصر (6,500 كج في الهكتار) توازي أمريكا (7,000) وفرنسا (7,100)، وتتفوق على روسيا(1,800). أي أن المجال الوحيد لزيادة انتاج القمح هو زيادة رقعة الانتاج على حساب محاصيل أخرى أو في الاراضي الصحراوية حيث تتفاقم مشكلات استهلاك وهدر المياه

الدرس المهم هو أن تدخل الحكومة في تحديد الاسعار أو استخدامات الاراضي سيؤدي دائما إلى مشاكل. فمهما خلصت النوايا، فان الانظمة الزراعية والغذائية هي أنظمة معقدة جدا، والتدخل في جانب من جوانبها سيؤدي دائما إلى انعاكسات وردود أفعال غير متوقعه كما أثبتت تجربة القمح في مصر. الحل الوحيد هو تراجع الحكومة عن دور موفر الغذاء وإطلاق يد قوى السوق لتقود المصريين لاستهلاك الاغذيه الاكثر اقتصادية وتوافرا في السوق المصرية. على المدى القصير، ندرك الثمن السياسي الباهظ لتقليل الدعم، خصوصا في ظل حالة السيولة السياسية الراهنة. لمواجهة هذا تبنت دول أخرى (مثل الهند مؤخرا) حلولاً مؤقته لتخفيف عبء زيادة الاسعار عن الطبقات الفقيرة عن طريق التحويلات المالية المباشرة التي تعطي المتلقي حرية صرف الدخل الإضافي لتخفيف أسعار الغذاء أو لاي استخدامات أخرى وهو ما يضمن قدرة الفقراء على شراء قوت يومهم، ولكن في ذات الوقت يحد من الهدر. أدت كل التجارب المشابهة في بلدان العالم الاخري إلى ترشيد الاستهلاك، وتنويع مصادر الغذاء وتخفيف العبء على ميزانية الدولة.

وفي كل الاحوال فان عواقب عدم الفعل حاليا، و في ظل الانخفاض الحاد في مستويات الاحتياطي الاجنبي تكاد تكون كارثية

أحمد النجار، وائل السحار


المصادر

  1. نبذه عن الاغذية الرئيسية في العالم: http://education.nationalgeographic.com/education/encyclopedia/food-staple/?ar_a=1
  2. تاريخ دعم الغذاء في مصر: http://www.ifpri.org/sites/default/files/pubs/divs/fcnd/dp/papers/dp77.pdf
  3. علاقة استهلاك الماء والانتاج الحراري: http://www.potato2008.org/en/potato/water.html
  4. استهلاك القمح: http://chartsbin.com/view/5267
  5. انتاجية الحبوب: http://goo.gl/oe5yU
  6. استهلاك مصر من القمح: http://www.fao.org/giews/countrybrief/country.jsp?code=EGY
  7. أسعار شراء الحكومة المصرية للقمح: http://www.reuters.com/article/2013/02/28/egypt-wheat-local-idUSL6N0BS8EM20130228
  8. السعر العالمي للقمح: http://www.indexmundi.com/commodities/?commodity=wheat&months=60
  9. أسعار المدخلات في زراعة القمح: http://coststudies.ucdavis.edu/files/wheatsjv2008.pdf
  10. أسعار المدخلات في زراعة البطاطس: http://coststudies.ucdavis.edu/files/potatoesir1_08.pdf