"… و البحث عن السعادة"

المصدر: الكاتب

دعني أسألك سؤالا يحيرني كثيرا في الفترة الأخيرة “فكر للحظات في برامج الحكومة أو المعارضة أو الاحزاب السياسية عامة في مصر، واذكر لي ثلاث أفكار أعجبتك… فكرتين؟… ماذا عن فكرة واحدة فقط؟”

من الاشياء المثيرة للدهشة والاستغراب، بالنسبة لي على الاقل، ندرة الافكار والبرامج الحقيقية، أو حتي الخيالية، لإعادة صياغة وبناء دور الدولة بعد عقود من التآكل والاندثار. ولا أعني فقط الافكار التي أُفَضِّلُها أو أوافق عليها، بل الافكار الحقيقية في مجملها. لا أحد يتكلم، على سبيل المثال، عن تأميم جميع أملاك القطاع الخاص. ولا أحد يتكلم عن تحرير القطاع الخاص تماما. لا أحد يتكلم عن تحرير المرأة والاقليات. لم نسمع في المقابل من يطالب بتكبيل حريات المرأة ونبذ الاقليات (من بين الاصوات الرئيسية على ألأقل). نسمع كثيرا شعارات فضفاضة، إنشائية، من عينة “مصر القوية”، “تحرر الإرادة الوطنية”، “مشروع النهضة”، وطبعا “استكمال الثورة” و”تحقيق العدالة الاجتماعية”، ولكن تحت كل هذه الشعارات برامج و أفكار بالية، أكل عليها الدهر وشرب، و استهلكتها برامج وشعارات الاتحاد الاشتراكي، وحكومات الحزب الوطني وجماعات الإسلام السياسي.

لمحاولة تفسير هذا الفقر الفكري، يلجا الكثيرون إلى لوم المصريين، كأفراد أو مجتمع، فنسمع تفسيرات من عينة “أدي اخرة التعليم المجاني”، أو “يا عم دي بلد مجانيين”، الخ. لا أجد تلك التفسيرات مقنعه: التعليم الجيد يفيد في فهم العالم إلى حد ما، ولكنه ليس بالضرورة مصدراً للأفكار الجيدة أو الرديئة. أما بالنسبة لقدرات المصريين العقلية، فان كنت أرفض أفكاراً من عينة “الطفل المصري أذكى طفل في العالم” فانا أيضا أرفض الاعتقاد أنه اغبي أو على مقدرة عقلية أقل من نظرائه.

اعتقد أن هناك سببين رئيسيين لحالة الاضمحلال الفكري، في مجال الفكر السياسي على الاقل، التي تشهدها مصر: غياب المقصد و الجهل بالوسيلة.

الدولة “الجيدة” هي التي تتيح، وتسهل لأعضائها تحقيق مقاصدهم من الحياة، علي اختلافها، والدولة “السيئة” هي الدولة التي تعرقل تحقيق تلك المقاصد

لتوضيح النقطتين، لنأخذ مثالاً لبلد افتراضي. هذا البلد نجح في الحفاظ على كيان سياسي مستقر لقرون من الزمان – لنقل قرنين. هذا البلد أيضا ناجح اقتصاديا بكل المقاييس، كما أن لديه آلة عسكرية قوية نجحت في نشر نفوذه في مشارق الأرض ومغاربها. بالإضافة لتلك النجاحات، تؤثر ثقافته وإعلامه على مليارات من البشر في أركان المعمورة. كغيره من بلاد الله، يعاني من الفقر والمرض والجهل وان اعترف المراقب المنصف أن حاله ليس أسوء من أغلبية بلدان العالم، إن لم يكن أحسن منها. باختصار نجح هذا البلد في تحقيق “أستاذية العالم”، كما يحلوا لِأساتذة الإنشاء في الإخوان المسلمين أن يطلقوا عليها. لنفترض أن اسم هذا البلد “الولايات المتحدة الأمريكية”

(أكاد اسمع أصوات الاستهجان والتأفف من كثيرين. لا أملك حثهم على مواصلة القراءة، وان استعرت الجملة الشهيرة لبائعي وسط البلد: خد فكره واشتري بكره)

سيعجب كثيرون لهذا الطرح: الكل يعرف أمريكا ولديه من القناعات والافكار المسبقة عنها ما يكفي ويفيض. أي جديد يمكن أن آتِيَ به؟ “عايزنا نبقى رأسماليين؟”، “عايزنا نبقى منحلين أخلاقيا؟”، “عايزنا نسيب ديننا؟”، الخ.

بعد سنوات من الإقامة في أمريكا، والسفر في أنحائها ، أستطيع الزعم أننا لا نعي غير القليل، والقليل جدا عن تلك البلد. معرفتنا سطحيه لدرجة الجهل (حتي في أوساط من درسوا في الجامعات الأمريكية). لا يوجد ما يعيب ضالة المعرفة ببلد من البلدان؛ أنا لا أعرف أقل القليل عن معظم بلدان العالم، وكذلك معظم البشر. العيب الحقيقي هو جهل من تصدوا للتفكير والتنظير السياسي بأهم وانجح تجربة بناء سياسي في العصر الحديث. بالطبع يغلف هؤلاء جهلهم بتبريرات من عينة الخصوصية الحضارية لبلادنا، واعتراضهم ومقتهم لسياسات أمريكا وما ترمز إليه، متجاهلين أن التعلم، وحتى النقل، من التجارب السياسية من دولة ما لا يعني بالضرورة الموافقة ولا التعاطف مع تلك الدولة، وان غياب المنظور النقدي حتى لأبرز التجارب السياسية ليس دليلاً على التفرد ولكن على الجهل المشين (بالبلدي: زي واحد راكب عربيه بتنهار، و قرر يعمل عربية على ايده، قالوله “بص على العربيه ديه، بقالها 200 سنه شغاله”، قالهم “ايه القرف ده، ديه بترج، بعدين صاحبها مفتري وبيدوس بيها على خلق الله”، وقرر أنه يفتكس عربيه من دماغه)

لست بصدد عرض “التجربة الأمريكية”، ولكنى أريد أن اطرح في عجالة، كيف يمكنا الاستفادة من تلك التجربة في صياغة فكر سياسي جديد مبني على معالجة السببين الذين أسلفت ذكرهما (غياب المقصد و الجهل بالوسيلة):


المقصد من الدولة
دعني أبدأ بسؤال عام: ما الهدف من وجودنا على هذه الأرض؟
قد يعتبر البعض أنه سؤال فلسفي (وهو كذلك)، ولكنه أيضا سؤال جوهري لتحديد ما هو الهدف من بناء أي دوله، هي في حقيقة الأمر مجرد تنظيم اجتماعي يضم عدداً من الافراد الذين يقضون وقتاً قصيراً، نسبيا، على هذه الأرض. في هذا الوقت، يطمع هؤلاء الافراد في تحقيق أشياء معينه تتناسب، في معظم الاحيان، مع معتقداتهم الدينية، وتجاربهم الحياتية. تلك الاشياء تتبدى لمعظمنا مع عمق التجربة والخبرة
في هذا الصدد، دعونا نتفق على نقطتين:

  1. الدولة “الجيدة” هي الدولة التي تتيح، وتسهل لأعضائها تحقيق مقاصدهم من الحياة، والدولة “السيئة” هي الدولة التي تعرقل تحقيق تلك المقاصد.
  2. أنه من المستحيل، عمليا، على أعضاء أي دولة حديثه تضم الملايين من البشر الاتفاق على أهدافهم وتطلعاتهم الشخصية من الحياة.

التعارض، الظاهري على الاقل، بين تلك النقطتين قد يفسر معظم التاريخ السياسي للإنسانية. الكثير من التجارب السياسية (وأبرزها الدول الدينية) تجاهلت النقطة الثانية بزعمها معرفة ما يصبوا إليه مواطنوها، أو ما يجب أن يصبوا إليه، وكبتت الكثير من الحريات، وقمعت البشر الذين اختلفوا مع هذه الاهداف. تجاهل النقطة الاولى ليس الحل أيضا، لأنه بدون أي هدف أو مقصد مشترك، انتفت صفة الدولة واهميتها.
القيمة الكبرى للتجربة الأمريكية هي في دمجها النقطتبن بالاعتراف بعدم قدرة الدولة على تحديد الاهداف التي يسعى مواطنوها إلى تحقيقها من وجودهم على الأرض، وفي نفس الوقت خلق هدف مشترك لهؤلاء المواطنين ألا وهو الدفاع عن حقهم ووقتهم في البحث عن هذه الاهداف على اختلافها.
لعل أهم صياغة لتلك الفكرة توجد في مقدمة اعلان استقلال الولايات المتحدة من بريطانيا، الذي استعرت منه عنوان هذا المقال:

إننا نؤمن أنه من الحقائق البديهية أن الناس جميعاً خلقوا سواسية، وأن الخالق منحهم حقوقاً ثابتة معينة، من بينها الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في البحث عن السعادة. ومن أجل تأمين هذه الحقوق، تتشكل الحكومات لتحكم بين الناس، ولتمارس سلطاتها العادلة بموافقة من المحكومين. وعندما يصبح أي شكل من أشكال الحكم منكِراً لهذه الحقوق، يصبح من حق الشعب تغييره أو إبطال عمله، وإقامة حكم جديد يقوم على أساس هذه المبادئ وينظم سلطاته على هذا النحو، لأن ذلك في معظم الأحيان يكون له أثر كبير على سلامة الناس وسعادتهم. وفي الواقع، تقتضي الحكمة عدم اللجوء إلى تغيير الحكومات الراسخة والمستقرة لأسباب بسيطة أو عابرة؛ وبناءً على ذلك، أثبتت كل التجارب أن الناس يميلون إلى تحمل المعاناة، طالما أن الشرور تستوجب المعاناة، أكثر من ميلهم إلى تصحيح أوضاعهم عن طريق إبطال النظم التي تعودوا عليها. ولكن عندما يتعرض الناس لسلسلة طويلة من انتهاك حقوقهم واغتصابها، بهدف ثابت لا يتغير وهو إخضاعهم للاستبداد المطلق، يصبح من حقهم، ومن واجبهم أيضاً، الإطاحة بهذه الحكومة، وتعيين حرس جديد على أمنهم المستقبلي.

إذا فالهدف من تكوين الدولة ليس الإنعام على الناس، أو حتى العمل لتحقيق هدف ديني أو دنيوي. الهدف من تكوين الدولة هو تأمين نعم الله على البشر! “الحق في البحث عن السعادة” هو من نعم الله. عدم حفاظ الدولة علي تلك الحقوق هو سبب كافي للإطاحة بالحكومة. تحديد المقصد من الدولة في حد ذاته كافٍ لبدء صياغة مشروع الدولة و أولوياتها. في المثال الأمريكي، إذا كان هدف الدولة هو حماية “الحق في البحث عن السعادة” كيفما عرفت، فبالتالي لابد للدولة من حماية أمنك الشخصي وملكيتك الخاصة وحقك في عبادة إلهك كيفما تراه.

من كتاب جورج واشنطون لراعي معبد تورو اليهودي في رود ايلاند:

المصدر: forward.com

خطاب جورج واشنطون ليهود رود ايلاند. المصدر: forward.com


حكومة الولايات المتحدة لا تقر التعصب، ولا تساعد الاضطهاد… أني أدعو لأولاد إبراهيم، ممن يعيشون في هذه البلاد، باستحقاق احترام السكان الاخريين، ودوام التمتع به، الكل آمنٌ تحت ظل كرمته واشجار تينِه، بدون أي سبب للخوف. أني أدعو إله الرحمة أن ينشر النور، لا الظلام، في طرقنا، وينفع بنا، كلٌ في عمله. وعند مشيئته وبطريقته، أن يجعلنا سعداء

دون الاتفاق على المقصد الرئيسي من الدولة، سنظل ندور في الحلقات المفرغة وستستمر حالة التصارع بين أفراد يتم الزج بهم، في معظم الاحوال، إلى علاقة لم يرتضوها وعقد لم يتم الاتفاق على هدفه، حتي يجري التشابك على بنوده!


الجهل بالوسيلة

حسناً. هل الاتفاق على الاهداف كافٍ لخلق الافكار والبرامج التي تُمكننا من تحقيق هذه الاهداف؟ الإجابة هي لا، لسببين. الأول، وهو البديهي، أن هناك الكثير من الطرق لتحقيق نفس الهدف (وهنا أيضا نجد دعاة الدولة الدينية يزعمون أنه إذا كان الهدف واحد، فالوسيلة أيضا واحده). السبب الثاني هو أن الافكار لا تُخلق ولا تستحدث من عدم: تحديد هدف، كالطيران مثلا، ليس كفيلاً في حد ذاته بخلق تصميم الطائرة،  ولكن المعرفة بتجارب الطيران الغير الناجحة ودراستها، مع حضور الذهن، والتجرد، يضاعف من فرص حدوث “الإلهام” الذي يؤدي إلى التقدم. إذاً فالإلهام ما هو إلا عملية التجويد المتتابع والمتصاعدة التي يقوم بها المفكرون للأفكار الموجودة بالفعل في زمانهم.
ولهذا أيضا، أجد من العجيب تجاهل “مفكري” هذه الامه لتجربة طويله (تمتد لما يزيد عن مائتي عام)، معاصرة، مليئة بالأفكار والدروس، ناجحة بمقاييس كثيرة، لدعوى عدم ملائمتها، أو لاختلافهم مع نتائج هذه التجربة (مع أنهم سيوافقوننى في أن التعلم من تجارب من فشلوا في الطيران كان ضرورياً لاختراع الطائرة، فان هذا التفكير لا ينسحب على أمريكا لسبب ما). نجدهم في المقابل يطاردون أشباح تجارب عفى عليها الزمن، لم تعش أو تنجح، ويزعمون أنهم قادرون على إعادة بعث هذه الافكار بعد أن اكتشفوا (بعبقرتيهم) أسباب الفشل، متجاهلين، مرة أخرى، تغير الزمن والظروف.

هدفي من هذا المقال ليس تأييد أو تزكية التجربة الأمريكية لمصر (وان كنت اعتقد، شخصيا، أن مبادئ إعلان الاستقلال والدستور الأمريكيَّيْن، نقاط بدء ممتازة لأي تجربه ديمقراطية في يومنا هذا) ولكن تشجيع المهتمين بمصير الدولة المصرية على طرح ومناقشة سؤالين، هما أهم وابقى من حسابات اللحظة السياسية:

  1. ما هو الهدف من الدولة المصرية؟
  2. ما هي الأمثلة الناجحة، في يومنا هذا، لدول حققت تلك الاهداف؟ وكيف نستطيع النقل من تلك التجارب؟

وائل السحار