ما هي الشرعية؟

الشرعية تعني شعور الغالبية العظمى من الشعب – من صوت بنعم ومن صوت بلا – من شارك في الانتخاب ومن لم يشارك – بأن الدولة تملك الحق في الحكم، بما في ذلك، أو على رأس ذلك، استخدام العنف لحماية المجتمع.
يأتي هذا الشعور بالحق في الحكم، من مصادر متعددة تختلف في حجمها وتأثيرها في تأسيس الشرعية، ويستحيل تقريباً أن يستقر نظام حكم ويحصل على شرعية كافية لحكم فعَّال اعتماداً على مصدر واحد للشرعية، إذ كلما تعددت المصادر كلما ترسخت الشرعية وإزدادت صلابة بحيث يتمكن النظام السياسي من “الحكم” بكفاءة، وكلما انخفض عدد هذه المصادر وحجم كل منها في تأسيس الشرعية كلما تعثر الحكم وواجه تحديات صريحة وضمنية لسلطته، ومن أهم مصادر الشرعية ما يلي:

الهوية: وتعني شعور الجماعات الاجتماعية المختلفة أن الحاكم يعبر عنهم بشكل ما، خصوصاً من خلال خطابه بشأن الهوية والقيم الثقافية التي يعبر عنها وانتمائه الاجتماعي. ومن البديهي أن الحاكم أو النظام لا يستطيع التماهي “هوياتياً” مع جميع الطبقات والجماعات داخل المجتمع، خصوصاً في حالات الاستقطاب الشديد مثلما هو حادث الآن في مصر. العنصر الحاسم هنا هو أن يكون لدى النظام عامل مشترك ما مع كل مجموعة هوياتية أو طبقية في المجتمع، وبحيث لا يحدث اغتراب كامل لفئة اجتماعية بأكملها عن النظام السياسي ومن ثم تنكر حقه في الحكم. الفكرة هنا ألا يشعر الناس أن النظام غريب عنهم ويعبر عن هوية وثقافة ومصالح دول أخرى أو شعوب غير الشعب الذي يحكمه. هذا المصدر تحديداً من أهم أسباب غضب وانتفاضة القطاعات المدينية من الطبقات الوسطى ضد حكم الإخوان المسلمين في مصر حيث أنه يستفز شعورهم الوطني، إذ يرونه نظاماً ضيقاً يعبر فقط عن الطائفة التي ينتمي إليها ويختلف ثقافياً عن التيار الرئيس السائد وسطهم. الهوية هي أول مصدر لأنها القاعدة التي تبني عليها باقي المصادر. وبدون وجود تعبير كافٍ عن الهوية، تتجه بعض القطاعات للشعور بالحكم وكأنه احتلال أجنبي، تجوز المقاومة ضده ولو بالعنف.

سيادة القانون والديمقراطية: وتعني أن الناس تثق في عدالة القانون وانطباقه بنفس القدرعلى الجميع دون تفرقة، وفي نزاهة وسلامة الإجراءات المتبعة لانتخاب الرئيس ومؤسسات الحكم، واستقلال الجهاز الإداري للدولة عن الحزب أو التيار الحاكم وعن شخص الرئيس، والفصل بين السلطات. سيادة القانون تعطي الناس شعوراً بالأمن، شعوراً بأنه ليس من المهم من هو القائد الآن لأنه يمكن توقع المستقبل، وأن هناك جهاز دولة محترف ومستقل ويعمل وفقاً لنظام قانوني عادل ومنضبط. الانتخاب بالطبع شرط مؤسس لهذا المصدر من الشرعية، شعور الناس – الجميع هذه المرة وليس فئة دون الأخرى – أنه شارك أو دُعِيَ للمشاركة في تقرير هذا المصير لبلده، مع اطمئنانه لسهولة تغيير الحكومة إذا توافق الناس على ذلك في صناديق الانتخاب مرة أخرى. الصندوق وحده لا يعني الكثير بدون استكمال البنيان الدستوري والقانوني الذي يحظى بالحد الأدنى من قبول الغالبية العظمى من أفراد وكيانات المجتمع. هذا المصدر من الشرعية – الديمقراطية وسيادة القانون – هو المصدر الأساسي للشرعية في الدول الرأسمالية المتقدمة في الغرب، لأنه يسمح باستقرار مؤسساتي واجتماعي كبير بغض النظر عن تقلبات السياسة وتغيرات السياسيين علي المناصب السياسية العليا في الدولة. مزاياه واضحة: جميع الناس تشترك فيه، نتائجه قاطعة لا خلاف حولها، أو هكذا يُفترض. لكن تظهر صعوبات تطبيقه في الدول التي تمر بمراحل تحول تختلط فيها بُنى الحداثة ببُنى ما قبل بل وما بعد الحداثة أحياناً، وهياكل الاقتصاد الرأسمالي مع التقليدي، والصناعي مع الزراعي، الخ. ويمكن اختصاراً رصد ثلاث نواحٍ تحتاج لتوافق مجتمعي عليها لضمان صمود هذا المصدر كأساس لشرعية مستقرة: الاقتصاد والهوية وتوازن القوى المجتمعي. الاقتصاد: مجتمع تشكل الطبقة الوسطى غالبية تكوينه الاجتماعي. الهوية: المجتمع غير منقسم هوياتياً إلى أقطاب متنافرة. توازن القوى المجتمعي: هناك توازن بين حجم وقدرة القوى السياسية المختلفة (الإخوان، الليبراليين، بيروقراطية الدولة والجيش، الخ، وذلك إذا اتخذنا مصر مثالاً)، وبحيث يقتنع الجميع أنه لا سبيل نهائياً لفوز طرف أوحد ونجاحه في السيطرة على المجتمع بمفرده. إذا لم تتحقق كل أو بعض هذه المعايير، فلا يكفي أيضاً هذا المصدر للشرعية ويكون على النظام تعزيز شرعيته بمصادر أخرى.

تعريف الناس للشرعية يختلف باختلاف انتماءاتهم… فالشرعية للطبقة الوسطى المدينية مثلاً تختلف عن الشرعية في الريف، ومفهوم الشرعية عند الشباب المتحمس يختلف عن مفهومها لدى المتقاعدين وكبار السن، والشرعية لدى أنصار التيار الإسلامي تختلف عن الشرعية في نظر الليبراليين أو اليساريين

الإنجاز: ويعني أن يقتنع الناس، وخصوصاً الطبقة الوسطى ذات المصلحة الأكبر والتوقعات الأعلى من التحديث، أن النظام السياسي يتسم بالكفاءة ويحقق نتائج إيجابية جيدة في المجالات الملموسة بالنسبة للمواطن، ويأتي على رأس هذه المجالات الأمن والاقتصاد. فكلما نجح النظام في إقناع مواطنيه بأنه يضمن أمنهم وسلامتهم، ويحميهم من الأخطار والإرهاب، أو يحسن اقتصادهم، ويطور الخدمات العامة، ويحقق مكاسب اجتماعية مثل تحسين التعليم والرعاية الصحية الى آخره، كلما زاد اقتناع مواطنيه بأنه يملك الحق في الحكم لضمان استمرار هذه المكاسب. هذا النوع من الشرعية هام في الدول النامية والطامحة للتحديث مثل مصر. وعندما يكون الأداء الاقتصادي والأمني جيداً فغالبية الناس قد تتغاضى عن النقص المحتمل في المصادر الأخرى للشرعية. هذا المصدر من الشرعية اعتمدت عليه معظم أنظمة الحكم المصرية بعد يوليو ١٩٥٢، وكان دائماً عاملاً فاصلاً في تحديد مدى شرعيتهم، حيث كان هو الأساس الفلسفي للمعادلة السياسية الحاكمة وهي اقتران التحديث في الاقتصاد بالسلطوية في السياسة. ويُعد انهيار هذا المصدر (مع بداية الأزمة الاقتصادية المزمنة في مصر منذ منتصف الستينات) مع استمرار السلطوية السياسية بدون مبرر، أحد أهم الأسباب وراء أزمة شرعية الحكم في مصر بشكل عام حتى قيام انتفاضة يناير الشعبية عام ٢٠١١.

الأيديولوجيا: الأيديولوجيا من أهم مصادر الشرعية في بلد مثل مصر تخوض غمار مرحلة تحولات ضخمة، سياسية واقتصادية وثقافية، ليس فقط خلال هذه الفترة بل منذ قرنين على الأقل عندما هاجمت رياح الحداثة الثوابت التقليدية الراسخة، ودفعت الناس دفعاً نحو إعادة التفكير في المسلمات من نوعية: من نحن، من أصدقاؤنا ومن أعداؤنا، وما هي رسالتنا في الحياة، وكيف يجب أن ندير شئون حياتنا، الخ، وهي الأسئلة التي تحتاج لإجابات أيديولوجية: تشرح الماضي، وتفسر الحاضر، وتُلهم المستقبل. يصبح المصدر الأيديولوجي قويّ التأثير كأساس لشرعية الحكم عندما تكون هناك أيديولوجيا واحدة مهيمنة على خيال معظم أفراد الشعب أو كتلة حرجة فاعلة سياسياً بداخله. بالنسبة لمصر، لم يحدث وأن هيمنت أيديولوجيا واحدة على المجتمع، وبالتالي كان الاعتماد على الأيديولوجيا كمصدر للشرعية يعني بالضرورة إقصاء وأحياناً معاداة غير المعتنقين لهذه الأيديولوجيا باعتبارهم غير معترفين بشرعية هذا النظام. الصراع تاريخياً في مصر مثلاً منذ انهيار الخلافة العثمانية وظهور الكيان السياسي المصري كان بشكل عام بين اتجاهين أيديولوجيين رئيسيين وبجوارهم اتجاهان أصغر، من حيث الحجم والتأثير: الدولتية والإسلام السياسي، وبجوارهم الليبرالية واليسار. وحديثاً يمكن أن ُيضاف إليهم بذور جديدة صغيرة للأناركية.

الكاريزما: تصبح الكاريزما مصدراً للشرعية عندما يكون للقائد تأثير شعوري بالغ على الجمهور، يقتنعون بكلامه وينتظرون خطاباته وينتشون بصوته. يحرك بداخلهم الأمل في مستقبل مبهر غالباً ما يكون متوهماً، ويقوي شعورهم بالثقة بالنفس ويعوضهم عن شعور المرارة الناتج عن مقارنة أحوالهم بأحوال الأكثر تقدماً. يُلاحَظ هنا اقتران الكاريزما بالأيديولوجيا لدرجة أن البعض يعتقد أن الكاريزما ما هي إلا نتاج لوجود أيديولوجيا قوية تضفي الهيبة الساحرة على شخص الحاكم المعبر عنها. عندما يكون هذا هو المصدر الوحيد للشرعية، يكون هناك احتياج لظهور القائد بشكل شبه يومي ليجدد وينعش شرعيته وشرعية نظامه. أفضل مثال تقليدي – فيما يتعلق بمصر – لهذا المصدر من الشرعية هو الرئيس جمال عبد الناصر، وإن لم تكن الكاريزما بالطبع هي المصدر الوحيد لشرعيته.

التقاليد والأعراف: تصبح التقاليد والأعراف مصدراً للشرعية في المجتمعات ذات البُنى الاجتماعية المحافظة، بطيئة التغيير، ولا شك أن المجتمع المصري، خصوصاً في الريف والصعيد، يندرج تحت هذه الفئة ويهتم كثيراً بهذا النوع من الشرعية. وتولد شرعية الأعراف والتقاليد عندما يستمر القائد والنظام في مواقعهم لفترة زمنية طويلة، وتعتاد الناس وجودهم وتألفهم، خاصة عندما يكون النظام محافظاً ولا يخالف عادات وتقاليد المجتمع ولا يصدمه. أهم النماذج لهذا المصدر هي أنظمة الحكم في الخليج. وغني عن الذكر – مرة أخرى – أنها تعتمد على مصادر أخرى للشرعية من أهمها شرعية الإنجاز.

شخصية الحاكم: وهي تختلف عن الكاريزما، والمقصود بها تعاطف الناس وقبولهم لشخص الحاكم دون انبهار كاريزمي لأسباب مثل أنه له تاريخ وطني مشرف، أو “ابن حلال وطيب..ابن بلد”، إلى آخره من الأشياء التي تلقى قبول المجتمع وفقاً لمعاييره وقيمه السائدة في وقت معين. هذا المصدر ضعيف جداً بالطبع، وليس أكثر دلالة على ذلك مما حدث لمبارك نفسه. لقد كانت شخصية مبارك مصدراً من مصادر شرعيته خلال النصف الأول على الأقل من حكمه. ولكن مع نقص باقي مصادر شرعيته، لم يشفع له قبول الناس سابقاً لشخصيته ومزاياها الإيجابية التي كانت محل قبولهم قبل ذلك. أقول لم يشفع له، ليس بمعنى الثورة عليه، ولكن بمعنى الثورة عليه لمن ثار والصمت وعدم الدفاع عنه وعن نظامه لمن لم يثر.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن تعريف الناس للشرعية يختلف باختلاف انتماءاتهم للطبقات والجماعات المختلفة داخل المجتمع. فالشرعية من وجهة نظر الطبقة الوسطى المدينية مثلاً تختلف عن الشرعية في الريف، ومفهوم الشرعية عند الشباب المتحمس يختلف عن مفهومها لدى المتقاعدين وكبار السن، والشرعية لدى أنصار التيار الإسلامي تختلف عن الشرعية في نظر الليبراليين أو اليساريين. وبالتالي فلكي يحصل نظام سياسي على شرعية تكفيه لحكم مستقر فاعل، يجب عليه أن يملأ خزان شرعيته بأكثر من مصدر يخاطب أكثر من فئة وجماعة، مع ملاحظة أن هناك مصادر عامة، أي تخاطب جميع الفئات والجماعات والطبقات، ومصادر خاصة لا تخاطب سوى بعض الفئات المجتمعية دون غيرها.

أحمد فهمي