مصر بعد عام واحد: النظام الذي سقط
نُشر هذا المقال لاول مرة في ٥ مارس ٢٠١٢ علي موقع مركز هدسون للدراسات. وبرغم تغير بعض التفاصيل والوجوه فاننا نعيد نشره حيث نري أن غياب الرؤية النقدية للتاريخ بشكل عام و تاريخ نظام ما قبل احداث الثلاثة أعوام السالفة بشكل خاص هو اكبر خطر علي مصر. فكما ذكرنا أدموند برك منذ أكثر من قرنين من الزمان “هؤلاء الذين لا يعرفون التاريخ عليهم لعنة تكراره” – المحرر
بقلم: صامويل تادرس
في ٢٥ يناير ٢٠١٢، خرج مئات الآلاف من المصريين إلى ميدان التحرير للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لثورة بلادهم. فكيف سيكون الاحتفال بهذا اليوم؟ هل سيحتفل المصريون بذكرى الثورة والإنجازات التي حققتها؟ أم سيُشعلون شرارة ثورة ثانية كما كان عتاة الثوار يحلمون؟ كانت الإجابة في ذلك اليوم مزيجًا من الاثنين معًا. فقد كان لمنصة جماعة الإخوان المسلمين طابع احتفالي، ومن يلومهم على ذلك. فالثورة المصرية كانت أكثر من كريمة معهم. فمن تنظيم محظور قبلها، إلى اكتساح ٤٧% من مقاعد مجلس الشعب، وتشكيل الحكومة الجديدة قريبًا. أما على الناحية الأخرى، كان شباب الثوار مستعدون للجولة الثانية: فقد حاولوا من جديد إطلاق شرارة ثورة، تُنهي ما بدؤوه قبل عام كامل، وتُسقط حاكم البلاد، المجلس العسكري. وفي نهاية اليوم، كان الموقف مشحونًا، فالاتهامات بخيانة الثورة والشهداء تتساقط على جماعة الإخوان المسلمين. وعلى مدار الأيام القليلة التالية، تتحول الإهانات اللفظية إلى مواجهات حقيقية، تُقرر جماعة الإخوان المسلمين بعدها أن تترك الميدان لبضعة مئات من الشباب، يقيمون بالميدان بالفعل بشكل شبه كامل طيلة العام الماضي.
ويصعب أن تكون الذكرى الأولى الوقت المناسب للتفكير في تلك الأحداث الجسيمة التي فاجأت مصر والعالم، فلم يُتلى باقيها إلى الآن، ومازال ضباب الغموض يحيط بأجزاء مختلفة منها، بل ولم تُكتب آخر فصولها بعد. وعلى الرغم من تلك الضبابية، لا يزال هناك نفع في التفكير، ليس فيما حدث فحسب، بل فيما إذا كانت التقديرات الأولية للموقف آنذاك قد نجحت في اجتياز اختبارات الواقع. وكما هو واضح للمراقبين، كانت نتائجها سيئة للغاية.
قزم في مقعد العمالقة
يتجه التركيز الآن حول مصر إلى المستقبل، كما هو متوقع. فتظهر أسئلة على غرار: كيف سيحكم الإسلاميون؟ هل سيتخلى الجيش عن السلطة؟ ماذا سيفعل شباب الثوار؟ جميعها أسئلة في غاية الأهمية، إلا أن رسم صورة أدق للموقف من خلال التفكير في الماضي ضروري أكثر، بل ولائق أكثر من التفكير في الحاضر أو المستقبل. فلماذا انتفض شعب ’حسني مبارك‘ ضده؟ ولماذا نجحوا؟ وبطبيعة الحال، تقودنا مثل تلك الأسئلة إلى النقاش حول كيف تمكَّن ’مبارك‘ من حكم مصر طيلة ثلاثين عامًا؟
’مبارك‘ لم يكن ’ستالين‘. فيصفه ’فؤاد عجمي‘ في مقالته “أحزان مصر” عام ١٩٩٥ بأنه “موظف حكومي بدرجة رئيس جمهورية”. فهو لا يفتقر فقط إلى تعظيم سابقيه لذاتهم، بل كذلك إلى قدرتهم على الخيال. فقد اضطلع بتلك المهمة التي أُلقيت على عاتقه في ذلك اليوم الحاسم من عام ١٩٨١ كأي موظف حكومي. أغرق نفسه في التفاصيل، ونظرًا لافتقاره لأي رؤية لمستقبل مصر، تحرك إلى الأمام بمنتهى الحذر، واختار دومًا الطريق الوسط، ذلك الخيار الآمن. ولأنه أدرك الحدود الحقيقية لقدرات بلد يتجاوز تعظيمه لذاته حدود حقيقته كثيرًا، ظهر كقزم يجلس في مقعد العمالقة. فالمصريون، وهم ساخرون بطبعهم، يصفون رؤساءهم الثلاثة بدقة في قولهم “الأول أكِّلنا المش، والتاني علِّمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش”.
ونجحت معادلة ’مبارك‘ لفترة، فالمصريون كانوا قد تعبوا من أحلام العظمة وما أنزلته بهم من مصائب، فكانت العودة إلى الحياة الطبيعية أكثر من جذَّابة. ومع خطر الإسلاميين المتنامي في الأفق، كان المصريون على استعداد لتحمل قزم، خاصة إذا كان القزم يبدو عليه أنه يعمل على تحسين اقتصاد البلاد المنهار، فالحاكم الأخرق، أفضل من الشيخ الأعمى (عمر عبد الرحمن).
إلا أن تلك المعادلة لم يكن لها أن تنجح إلى الأبد. فعلى الرغم من نجاح ’مبارك‘ في هزيمة الإسلاميين، واستعادة العلاقات الطيبة مع العالم العربي، وإنشاء بنية تحتية للبلاد، إلا أن كل نجاح كان ينقص من الأسباب التي تجعل شعبًا ضجر من الركود والانحدار يتحمَّل رجلًا دون المتوسط في أفضل حالاته. وكلما تلاشت ذكرى الكوارث التي وقعت جراء أحلام العظَمة، كلما تصاعد إغراءها. فكما لاحظ ’فؤاد عجمي‘ بدقة فان “في قلب الحياة المصرية شعور هائل بخيبة الأمل. فكبرياء مصر الحديثة كان أعظم بكثير من إنجازاتها”. فمصر كانت دولة على طريق الانحدار، وباستثناء بعض الانتصارات في مجال كرة القدم، لا يوجد ما يُفتخر به. وعلى الرغم من أن مصر بدأت مسيرتها نحو الحداثة قبل اليابان، كما يلاحظ المصريون، إلا أنها تقف الآن في مواجهة تهديد لنهر النيل، أساس وجودها ذاته، من دولة مثل بوروندي.
وكان ذلك الإحساس بخيبة الأمل عميقًا، خاصة مع توقف جهاز الدولة الإعلامي عن “البروباجندا”. وفي الواقع، كانت آليات البروباجندا موجودة إلا أن الرسالة لم تكن. فأفضل دفاع قيل عن ’حسني مبارك‘ كان أنه باعد بين مصر وبين الحروب، إلا أن المصريين كانوا يتوقعون أكثر من ذلك. وكثرت الرسائل المتناقضة، وإن ظلت معاداة السامية هي الرسالة المتسقة الوحيدة التي اشتركت فيها جميع الأطياف السياسية، بدءًا من النظام الحاكم إلى من ادعوا الليبرالية، ومرورًا باليسار والإسلاميين. إلا أن رسالة جهاز الدولة الإعلامي المعادية للسامية كانت مرتبكة. فالهجوم على إسرائيل مستمر ليل نهار، ويُلقى باللوم على المؤامرة اليهودية العالمية في كل ما هو خطأ في مصر، إلا أن صحيفة مصرية، وفي خضم ذلك، قد تنشر صورة لاجتماع بين الرئيس ’مبارك‘ مع زعيم إسرائيلي. فلا عجب أن الشعب لم يفهم قناعة النظام الحاكم حول المسألة، وفي الغالب فأن النظام نفسه لم يكن يفهمها.
التغير من خلال الإدراك
للحظة كان يبدو أن الشاب ’جمال مبارك‘، ابن رئيس الجمهورية الأسبق، يمكنه أن ينقذ نظام والده. وعلى الرغم من الصدمة التي قد يُمثلها ذلك، إلا أن دخول ’جمال مبارك‘ معترك الحياة السياسية قوبل بالحماس في البداية. فقد كان صغير السن، وليس له خلفية عسكرية، ويحمل معه حلم الرخاء الاقتصادي. فهاهو الرجل الذي سيُمكِّن مصر من اللحاق بذلك القطار الذي انتظرته طويلًا. إلا أن ذلك الأمل لم يستمر طويلًا، فقد نُصح الرجل أن يبدو ويتصرف بأسلوب رئاسي. فكانت النتيجة أنه لم يستطع أن يتواصل مع المصريين. والأكثر أهمية من ذلك أن أحلام الرخاء لم تتحقق. وعلى الرغم من أن الدولة حققت معدلات نمو ملحوظة، إلا أن آالام ذلك النمو كانت هائلة، مثلما الحال في كل تحول اقتصادي. فتكنوقراط النظام ساروا على دليل البنك الدولي/ صندوق النقد الدولي بدقة، إلا أن المصريين المعتادين منذ زمن على “الدولة الحاضنة”، لم يستوعبوا قط سبب اختيار ذلك الطريق. وصبَّ الإعلام الحكومي الزيت على النار بإصراره على أن النظام يعمل لصالح محدودي الدخل.
فكانت الساحة السياسية في حالة غليان، ففي ذلك الوقت، كانت الرياح التي أرسلها الرئيس الأمريكي ’جورج بوش‘ لتحوم حول العراق تتحول إلى إعصار، وتتسبب في عاصفة نارية في مصر. فمن المفارقات أن المعارضة ضد الحرب على العراق كانت شرارة أول حركة معارضة في الشارع المصري. وبعد ذلك بفترة قصيرة وتحت ضغوط أمريكية، بدأ النظام في الانفتاح والإصلاح السياسي. وركَّزت المعارضة على رفض ’جمال مبارك‘ وليًّا للعهد، فعل حد قول المعارضين “نحن لسنا إرثًا”، واجتمع الفرقاء: إسلاميون، فاشيون، شيوعيون، ومن اعتبروا أنفسهم دعاة الديمقراطية، إلا أنهم خلوا من وجه جديد، فجميعهم شارك في الحياة السياسية من قبل، ولم ينجح أحدهم في إثارة حماس الجماهير.
ثم أتت الانترنت، وقد كُتب الكثير عن آثار التواصل الاجتماعي وكيف أوجد الثورة، ومع ان معظم ذلك في الواقع من ضروب الخيال، إلا أن الانترنت لعبت دورًا هامًا، فقد خلقت وعيًا وإدراكًا، وأجبرت الشعب على أن يقوم باختيار أخلاقي. وبرز في مضمار تلك الاختبارات موضوعان أساسيان: وحشية الشرطة، وتزوير الانتخابات.
أي مصري عادي يمكنه أن يتجاهل وحشية شرطة النظام دون أن يُساءل أخلاقيًا، إلا إذا تعرَّض هو لتلك المعاملة. فالوحشية علي أي حال كانت من الملامح الطبيعية في مصر، وطالما عاملت شرطة جميع الأنظمة الحاكمة في مصر المسجونين بقسوة. بل يمكن القول بأن الوحشية تراجعت عمَّا كانت عليه في غرف تعذيب الرئيس ’جمال عبدالناصر‘. إلا أن الانترنت غيَّرت كل ذلك، فالمدونون رفعوا تسجيلات مصورة لأحداث تعذيب شرطي، وانتشرت صور الضحايا في كل مكان. وكان ذلك ما جعل من قتل ’خالد سعيد‘، ذي الثمانية وعشرين عامًا، بوحشية على أيدي رجال الشرطة في يونيو ٢٠١٠ حدثًا هامًا. فصور جثمانه المحطَّم كانت أكثر من أن يمكن تجاهلها، ولم يقدر الناس على ذلك. وعلى الرغم من إمكانية أخذ جانب النظام في مسألة كهذه، وقد فعل البعض ذلك، إلا أن الأمر كان يتطلب خيارًا أخلاقيًا، يثقل على الضمير.
وفي الوقت ذاته، شهد تزوير الانتخابات تحولًا مماثلًا. فعلاوة على أن الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٠ كانت من أسوأ ما مر على مصر في تاريخها، إلا أن الأهم أن الجميع أصبح يحمل هاتفًا محمولًا مزودًا بكاميرا. فرُفعت التسجيلات المصورة في دقائق، وشاركها المتابعون في وقت أقل.
وفي الأمرين، كان الإدراك هو الأهم.
دولة تنهار
يزعم الكثيرون أن تونس كانت من أطلق شرارة الثورة المصرية، وذلك أمر مؤكد، فلم تعطِ تونس للشعوب الأمل بأن النصر ممكن فحسب، بل كانت مثالًا نموذجيًا لذلك التحول المنشود. فلم تُرق الكثير من الدماء، وانهار النظام بأكمله، وأخذ الجيش جانب الشعب، وهرب الطاغية إلى خارج البلاد. ولو كانت أحداث ليبيا قد وقعت قبل ما حدث في مصر، بأنهار الدم التي أُريقت فيها، فمن المشكوك فيه أن حماسة المصريين للثورة كانت ستبقى على ما كانت عليه. إلا أن السؤال الأهم هنا هو لماذا انهار النظام، وكيف سقط بتلك السهولة. فمن الطبيعي للغاية أن ينتفض شعب مطالبًا بالحرية والعدالة، حتى لو كانت معاني تلك الكلمات غير واضحة في عقله، إلا أن الأمر الصادم الذي حبس أنفاس المراقبين كانت المقاومة الضعيفة التي أبداها النظام. فميدان التحرير لم يكن ميدان السلام السماوي في بكين، وبدلًا من أن تعبر الدبابات فوق أجساد المتظاهرين، كانت صيحة الهجوم الأخيرة للنظام على صهوة الخيل والجمال.
وبالرغم من أن ’مبارك‘ كان رئيسًا لدولة في طور الانهيار، غاب عن الكثيرين أن النظام ذاته لم يكن بعيدًا عن ذلك. فبيروقراطية الدولة توقفت تقريبًا عن العمل قبل فبراير ٢٠١١ بسنوات، لأن الدولة كانت قد بسطت أجنحتها أكثر مما تستطيع، وحمَّلت نفسها واجبات تعجز عن أدائها. ولم تكن قوات الشرطة ذاتها محصنة ضد الانهيار، ففي اللحظة الحاسمة، لم تستطع أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية أن تستوعب الأحداث، واحتاج المتظاهرون إلى أربع ساعات فحسب لهزيمة قوات الشرطة. فإن كانت مصر وقتها نموذجًا للدولة البوليسية القوية، لا يمكن لأحد أن يتخيل كيف تكون الضعيفة. فالدولة المصرية كان لها مظهر المبنى القوي، إلا أن الحشرات كانت تنهش أساساته منذ زمن بعيد. ولم يحتاج المبنى إلا إلى ريح ضعيفة لينهار على هذا النحو المذهل.
وقد يتساءل البعض؟ وماذا عن الجيش؟ ألم يكن الجيش عماد ذلك النظام؟ ولا غبار على السؤال لأن نظام ’حسني مبارك‘ لم يوجد في حقيقة الأمر. فالضباط الذين تقلَّدوا الحكم في عام ١٩٥٢ لم يتخلوا عنه. وغابت حقيقة أن الجيش هو النظام الحاكم، من الناحية العملية، عن المتظاهرين الذين هتفوا “الجيش والشعب إيد واحدة”، وليكتمل العجب، غابت عن الجيش كذلك. فلأن الجيش في زمن السلم أصبح مجرد إدارة حكومية معنية بقطاع الدفاع، لم يعد ضباطه يرون في أنفسهم عماد النظام.
الواقع المصري
تجد مصر نفسها الآن أمام لحظة من الحماس. فالآمال والأحلام التي صنعتها الثورة تبلغ عنان السماء، إلا أنها ستنهار قريبًا في مواجهة الواقع المصري. ففي الحقيقة، لم تكن “أحزان مصر” من صُنع ’حسني مبارك‘، فهو وجيله كانوا أنفسهم نتاجًا لتلك الأحزان. ويملأ الحلم الإسلامي الآفاق في مصر الآن، إلا أن مصر كانت علتها الدائمة مُدَّعي الخلاص، وباءت جميع أحلامهم بالفشل. وبمرور الوقت، سيمر ذلك الحلم أيضًا ويذهب أثره، وسيبقى إلى الأبد حقيقة واحدة، حقيقة بلد لازال يصارع فكرة الحداثة.