ديكتاتورية تحت الطلب

المصدر: flickr.com/stefangeens/

بقلم: صامويل تادروس
في تمام الساعة ٤:٣٤ صباحا بتوقيت القاهرة، يوم ٢٠ مارس ٢٠٠٣ بدأت قوات التحالف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية غزو العراق. بعدها بست ساعات اخترقت مجموعة من المتظاهرين غير المتوقعيين، وهم طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة، صفوف الأمن في ميدان التحرير. كانت قوي المعارضة المصرية قد دعت لمظاهرات في الميدان في الساعة الواحدة بعد الظهر، ولكن قبلها بثلاث ساعات فاجيء حوالي ألف من طلبة الجامعة الأمن ونجحوا في الوصول إلى الميدان. امتليء الجو بالنشوة وأحال المتظاهرون نظرهم إلى المبني القريب الرامز إلى السيطرة الأمريكية على بلدهم: مبني السفارة الأمريكية المحصن.
لم تتردد الجموع في مهاجمة خطوط الأمن، خاصة أن هجومهم أبدي فعاليته. نجح المتظاهرون في عبور ميدان عمرو مكرم والوصول إلى ميدان سيمون بوليفار. ارتفعت الهتافات “قولو لبوش قولو لبلير …. العراق غير الأفغان”. كانت هذه أقصي نقطة نجح المتظاهرون في الوصول أليها. كان الأمن قد استعاد توازنه وأفشل كل محاولات اختراق صفوفه. سقط بعض المتظاهرين على جانب الطريق ليحملهم رفقائهم بعيدا بينما لطخت وجوههم الدماء. نجح نصف المتظاهرين في الوصول للشارع المؤدي إلى كورنيش النيل. اندفع هؤلاء، معطلين حركة السير، في أتجاه السفارة البريطانية. لم ينجحوا في محاصرتها، وبعد ساعتين رجعوا لمشاركة رفاقهم في ميدان سيمون بوليفار، ثم نجحوا أخيرا في فك حصار الأمن والرجوع إلى ميدان التحرير.
في ذلك الوقت كان ناشطو المعارضة قد وصلوا. كان يوجد الآلاف في الميدان. حاولوا من جديد مهاجمة السفارة الأمريكية عدة مرات، ولكن الأمن نجح في التصدي لهم في كل مرة. بدأت الحلقات في التكون في الميدان و بدأ رسم الجرافيتي على الأسفلت. كان من الممكن سماع أغنية ماجدة الرومي الشهيرة “الشارع لنا” في الميدان. تعالت الأصوات “الشارع لنا … الميدان لنا …. و بكرا مصر تبقى لنا”. لم يشهد هذا الجيل من المصريين أي شيء من هذا القبيل من قبل. لم تشهد مصر أي شيء من هذا القبيل منذ انتفاضة الخبز في ١٩٧٧. في اليوم التالي خرج المتظاهرون من الجامع الأزهر ونجحوا في اجتياح الميدان مرة أخري. توالت المواجهات لبقية اليوم، وتواترت الأخبار عن أضرام المتظاهرين النيران في أحد عربات المطافيء التي كانت تستخدم لتفريق المتظاهرين. في اليوم التالي قبض الأمن على الكثير من النشطاء من مختلف الاتجاهات السياسية. ماتبقي من حماسة المتظاهرين تكفلت مشاهد إحتفال العراقيين بسقوط تمثال صدام حسين، بعدها بعشرين يوم، بتبديده. ضاع شرف الأمة الممتده من الخليج إلى المحيط في شوارع بغداد.
لابد أن الآلهة كانت تلعب بالزهر يوم ٢٠ مارس ٢٠٠٣. لم يدرك المتظاهرون في ميدان التحرير ذلك في حينه، ولكنهم كانوا يخطون أول سطور الثورة المصرية.


من الصعب الدفع بأن الثورة المصرية لم تفشل بعد. تبددت نشوة تلك الأيام الثماني عشر السحرية في ميدان التحرير و معها آمال الديمقراطية في مصر. أخذت مكانهما مرارة النشطاء الثوريين و مريدينهم حول العالم. كيف تلومهم؟ الرجل الذي حاولوا عزله لازال ينعم بالحرية بعد عامين في السجن. وجوه النظام القديم عادت إلى الصدارة. والنشطاء الثوريون (الجزء منهم الذي لم يتحول إلى تشجيع الجيش بعد التظاهر ضده من سنتين فقط) مابين المسجون،أو المهاجر،أو الملعون، أو المُحبط.

إنك لا تستطيع أن تصل إلي أي نتيجة إن لم يعمل أحد على تحقيقها. الديموقراطية الليبرالية لن تخلق من عدم. لابد لها أن يوجد ديموقراطيين ليبراليين

صحيح أن بعضهم لازال يؤمن بان الثورة مستمرة أو – وهو الإدعاء الأكثر غرابة – أن الإطاحة بمحمد مرسي ماهي إلا الموجة الثانية من الثورة الأصلية. أحد هؤلاء الموهمين هو وزير خارجية أمريكا، جون كيري، الذي صرح أن الأخوان المسلمين قد “سرقوا” الثورة وان مصر على مايبدو في طريقها للديموقراطية. وبغض النظر عن تلك الآراء، وما إن كانت مصر تشهد ثورة مضاده (كما يري كاتب هذة المقالة)، أوأنها قد شهدت انقلاباٌ، أو أن لا ثورة قامت في الأساس كما طرح هيو روبرتس على صفحات London Review of Books، فإن الأتفاق العام هو على أن مصر قد عادت إلى قبضة استبدادية، وإن كانت هذه المرة وسط تهليل الجموع. فمهما كان ما حدث في ٢٥ يناير فقد فشل تماما في تحويل مصر في إتجاه ديموقراطية حقيقية.
بالنسبة للمتباكين على فشل الثورة التي أسرت العالم فإن اللوم كله يقع على قوة من إثنين: المؤسسة العسكرية المصرية، أو الإخوان المسلمين. سيطرت نظرية المؤسسة العسكرية التي لم تقبل أبدا بمبدأ سيطرة المدنيين وحاولت إحكام سيطرتها على الدولة وإقتصادها، والإخوان الذين حكموا بطريقة إقصائية أفقدتهم تعاطف الشعب، على آراء المحللين لسبب وصول مصر إلى ما آلت إليه اليوم.
المثير للعجب هو قلة التركيز على أفعال وإختيارات الثوار غير الاسلاميين. فبجانب الانتقادات المعتادة لضعفهم التنظيمي، أو النقد الموجه مؤخرا لبعضهم ممن ساند الانقلاب العسكري، لم يوجه لهم أي نقد حقيقي، وبالتالي فلم يوجه لهم أي لوم. مايجعل ذلك أكثر غرابة هو أنه منذ ثلاثة أعوام كان الإعلام والمحلليين الغربيين لا يكادوا يروا أي مجموعات اخري بخلاف هؤلاء الشباب والشابات اللذين وصفهوهم بالليبراليين، الديمقراطيين، الوسطيين، و العلمانيين. احُتفي بالثوار المصريين على أنهم الأبطال اللذين نجحوا أخيرا في كسر الثنائية الأبدية بين الأنظمة الاستبدادية والشمولية الإسلامية. كان الظن أن أناساٌ مثل وائل غنيم، المدير التنفيذي في جوجل، وأحمد ماهر، مؤسس حركة ٦ أبريل، والدبلوماسي الدولي محمد البرادعي سيؤسسوا للطريق الثالث المنتظر.
في ٢٥ يناير ٢٠١١ خرج المصريون للمطالبة بالتغيير. بعض المتظاهرين كانوا من قدامي المتظاهرين ضد حكم حسني مبارك، بينما كان البعض الأخر يتظاهر لأول مرة. بعدها بثلاث أيام إشترك معهم مئات الآلاف في الميادين، وبعد ١٥ يوم استقال مبارك كرئيس لمصر. من كانوا هؤلاء الثوار ومن أين أتوا؟ ماهي تركيبتهم الأيديولوجية والتنظيمية؟ لماذا كانوا على خلاف مع نظام مبارك، ولماذا أرادوا إسقاطه؟ ماذا كانت آمالهم وتطلعاتهم لمستقبل مصر؟ وكيف سعوا لتحقيقها؟ لفهم قصة الثورة في مصر، يجب علينا أن نبدأ قبل ٢٥ يناير ٢٠١١ بسنوات عندما بدأ هؤلاء الثوار في معرفة بعضهم البعض وتعلم الأدوات التي استعملوها فيمابعد لإسقاط النظام.
غياب البحث المفصل في أمر ثوار مصر أدي إلى فجوة حقيقية في فهمنا للأحداث التي توالت في الثلاث أعوام الأخيرة. في كل الأحداث – بدءا من قرارهم الدعوة إلى مظاهرات ٢٥ يناير ٢٠١١، ثم رفضهم المشاركة في العملية السياسية، لمطالبتهم بإنهاء حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مرورا بالمظاهرات المستمرة والمواجهات مع الشرطة وحتي اختياراتهم في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية – لم يكن الثوار ضحايا لا حول لهم، ولكنهم كانوا ممثلون فاعلون أثروا علي إتجاه البلاد وشكلوه. من المهم فهم الدور الذي لعبه الثوار في دفع مصر في طريقها المدمر نحو الهاوية.


خلال الثماني عشر يوم السحرية في ميدان التحرير، علق عمرو البرجسي، أحد أذكي المتابعين للوضع في مصر، أن “مصر تفتقد للثقافة السياسية اللازمة لإقامة ديموقراطية ليبرالية”
لم يكن تشاؤمه ناتج عن إعتقاد أن المصريين أقل من أي أناس آخريين أو أن مصر “تفتقد حتي للمكونات العقلية الأساسية” كما كتب دافيد بروكس.
تشاؤمه كان منبعه حقيقة حياتية بسيطة: إنك لا تستطيع أن تصل إلي أي نتيجة إن لم يعمل أحد على تحقيقها. الديموقراطية الليبرالية لن تخلق من عدم. لابد لها أن يوجد ديموقراطيين ليبراليين. وإذا اتفقنا أن المصطلح لا يعني فقط أناساٌ غير إسلاميين أو يساريين راديكاليين، فمن الواضح أن لا وجود لهم في السياسة المصرية. يوجد في مصر قلة قليلة جدا ممن يمكن تسميتهم الليبراليين، لا لأن المصريين غير قابليين لليبرالية، أو أنهم مختلفون عن أي أناس آخرون، ولكن لأن الليبرالية لا توجد في مصر. لا وجود لخطاب ليبرالي في النقاش العام. لا يمكن للناس أن يتبعوا أيديولوجية غير موجودة. ففي ظل غياب شبه تام لأي كتب ليبرالية مكتوبة باللغة العربية، أو تراجم للكتب الليبرالية الغربية فإن الليبراليين المصريين هم فقط من الفئة المميزة التي تستطيع ومستعدة للقراءة بلغة أجنبية.
واليوم ينقسم ثوار مصر إلي خاضع وواهم. هؤلاء الذين أصبحوا مجرد مهللون لانقلاب عسكري أو الآخرون الحالمون بثورة أبدية، أو كما وصف لشك كولاكفسكي أقرانهم “محبي البغايا، أو محبي السحاب: هؤلاء الذين لا يعرفون غير المتعة اللحظية، او آخرين أضاعوا أنفسهم في أوهام بليدة”.
من السهل الإعتقاد أنهم كأودويب، وقعوا في مأساة لم يكن لهم عليها أي تحكم. ولكن التراجيديات الإغريقية لا يمكن أن تساعدنا على فهم قصة الثورة المصرية. ولكن لربما أفادتنا مساهمة حضارية أخري للإغريق ألا وهي الأساطير الإغريقية. فإن لم يبدأ الثوار في التعلم من أخطائهم، إن لم يبدأوا في رحلة لفهم بلدهم، إن لم يعلموا أنفسهم أقدم الكتب لا آخر التكنولوجيات، إن لم يقدموا لبني وطنهم شيئاٌ أعمق من مجرد مبادئ مجردة، إن لم يفعلوا كل ذلك، فمصيرهم كمصير سيزيف: أن يحملوا صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصلوا إلى القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعودو لرفعها إلى القمة، ويظلوا هكذا إلى الأبد. عملا لا طائل منه، وإخفاقا لا ينتهي.
اليوم، بعد آمال الثورة وخيباتها، تجد مصر نفسها في مكان مألوف جدا: الأمل في الخلاص على يد رجل واحد. يتركز هذا الأمل في قائد عسكري: عبد الفتاح السيسي. إنها الديكتاتورية بالطلب. مرت البلاد بنفس المكان من قبل. فلعقدين من الزمان (١٩٥٤-١٩٧٠) أعطي جمال عبد الناصر مصر لحظة من الحماس قبل أن يقودها إلى الهزيمة و الحسرة. سيتطلب الأمر الكثير من التمني، وحظ أكبر مما يمنحه التاريخ عادة لتصديق أن الإيمان بالمخلص الجديد سيؤدي إلى حصاد أفضل من ذي قبل.

في خلال الأعوام الثلاث الأخيرة وفي خضم الاضطربات التي هزت كيان مصر كنت في نقاش لا ينتهي مع مجموعة من الليبراليين المصريين الذين أحبوا بلدهم بعمق. لم يكن لهذا المقال أن يخرج بهذا الشكل بدون آرائهم وتعليقاتهم طوال تلك المدة. سأظل أبد الدهر مدينا لهم.

هذه المقالة هي ترجمة لجزء مقتبس من كتاب صامويل تادروس الأخير “تأملات في الثورة في مصر” – “Reflections on the Revolution in Egypt“، الصادر عن Hoover Institute Press.