فهمى هويدى وصحوة الفلول

المصدر: الجزيرة مباشر مصر

بقلم: جمال ابو الحسن

الأستاذ فهمى هويدى قامة سامقة فى عالم الكتابة الصحفية. إذا كتب قرأ الناس، وإذا تحدث سمعوا وانتهبوا. فى مقاله بـ«الشروق» الغراء الثلاثاء الماضى تحت عنوان «صحوة الفلول وأزمة الثورة»، حلل هويدى ظاهرة عودة الفلول ومحاولتهم تبييض فترة حكم مبارك. وتناول مقالاً لكاتب هذه السطور اعتبر أنه ينتمى إلى كتابات «حولت إدانة حقبة مبارك الكئيبة إلى مجرد وجهة نظر واجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، كما حولت الثورة من حلم أعاد الوطن إلى أهله إلى كارثة حلت بالبلاد وعالجت ما هو سيئ بما هو أسوأ وأنكى».

السطور السابقة هى لب الموضوع والباقى تفاصيل وحواش. هل الثورة «وجهة نظر» أم إيمان ثابت وعقيدة لا تتزحزح؟. أدعو القارئ للتفكير معى فى هذا السؤال المهم الذى أثاره مقال الأستاذ هويدى. الثورة – فى رأيي- هى بالفعل وجهة نظر. هى أيضاً وجهة نظر قابلة للتغيير مع الوقت، مثلها فى ذلك مثل أى تقييم لأى حدث تاريخى. الثورات الكبرى فى تاريخ العالم هى أيضاً «وجهة نظر». قد ترى أن الثورة الفرنسية عظيمة لأنها تبنت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة، وأزاحت نظاماً استبدادياً. قد يرى آخر أن تكلفة الثورة كانت هائلة، وأنها خلقت استبداداً فاق ما أزاحته فى رعبه ودمويته.

تتباين وجهات النظر أيضاً بحسب زاوية الرؤية. ربما يقول لك فلاح فرنسى فى صيف 1789 إن الثورة أجمل حدث صادفه فى حياته، إذ أنقذته من عسف جامعى الضرائب وذل الإقطاع. لو سألت نفس هذا الفلاح بعدها بخمس سنوات لربما وجدته يرتعد وجلاً من الرعب الذى فرضه الثوار على الناس فيما سُمى عهد الإرهاب بزعامة «روبسبيير». لو سألت مواطناً فرنسياً اليوم لربما قال إن الثورة كانت ضرورية لإزاحة المنظومة الاجتماعية القديمة والولوج إلى العصر الحديث. زاوية الرؤية وزمنها تصبغ الرأى والتقييم.

تقييم النظم التى تزيحها الثورات هو أيضاً «وجهة نظر». الإدانة المطلقة لعصر، هو موقف سياسى يهدف غالباً إلى التمهيد للقبول المطلق بالعصر الجديد. لابد أن يكون القديم الزائل شرا كله، حتى يصير التغيير الثورى الشامل مبرراً ومقبولاً. فعل الضباط الأحرار ومن والاهم الشىء نفسه مع الحقبة السابقة على يوليو 1952.

تقييم العهود البائدة مرتبط بما يحدث بعد الثورات، وليس فى المطلق. أذاعت قناة الجزيرة مباشر الأسبوع الماضى تقريراً حياً يستطلع رأى المواطنين حول محاكمة مبارك. اقتحم فلاح صعيدى بسيط الكادر. صمم أن يلقى «خطاباً مرتجلاً» مولياً ظهره للكاميرا لأنه لا يهتم بالتصوير. قال: «ما شفناش قطع الطرق إلا بعد مبارك، لأنه كان معيش البلد فى أمان. حتى لو كان حرامى.. هو كان بياكل واحنا بناكل. الصح إنه يرجع رئيس». هذه النغمة منتشرة بتنويعات مختلفة. لولاها ما كتب الأستاذ هويدى مقاله عن «صحوة الفلول». الناس لا تقيم فقط حكم الإخوان الحالى، ولكنها تنظر للوراء أيضاً. تعيد تشكيل موقفها من النظام القديم. تعيد قراءة ما حدث خلال العامين المنصرمين. التيار الدينى يسعى لإنكار كل هذا. المراجعة العقلانية لسياسات مبارك ولمسار الثورة ليست فى صالحهم، لأن الناس ترى اليوم عصر مبارك عبر عدسة الفشل الإخوانى.

يظن البعض أن فشل الحكم الإخوانى يدفع الناس لتبرئة ساحة مبارك. ليس هذا دقيقاً. الحكم الإخوانى وفر دائرة أوسع للرؤية. الافتراض الرئيسى وراء الثورة هو أن نظام مبارك كان يحول دون وصول مصر لوضع أفضل. اليوم، يفكر الناس من جديد فى سياسات مبارك. يعيدون تقييمها فى إطار الممكن، بعد أن حلموا بالمستحيل. يشعرون أكثر بالمحددات التى تحكم الوضع كله. يشعرون بأن «جرثومة التخلف» أكبر من مبارك ومن معارضته- الدينية والمدنية- فى نفس الوقت. يشعرون بأن الإطاحة بمبارك لم تأت بالحل السحرى، لأنه- ببساطة- لم يكن مسؤولاً كلياً عن «جرثومة التخلف» الشامل التى ضربت المجتمع. يحمِّلون مبارك نصيبه من المسؤولية، ولكنهم ينتبهون أيضاً لأنصبة الآخرين. لا يعنى ذلك أن الناس تريد عودة حكم مبارك، حتى ولو أعلن بعضهم ذلك من فرط الكمد. يعنى فقط أنهم يرون بصورة أوضح بعدما انقشع الغبار.

العودة لمراجعة فترة مبارك ليست تمريناً ذهنياً. لا يصح أن تصبح تزجية للفراغ فى برامج التوك شو فى المساء. لا ينبغى أن تكون مادة للتشفى الساذج فى تعثر الحكم الإخوانى ومعايرة رموزه. مراجعة ثلاثين عاماً من عمر مصر هى فرض عين من أجل المستقبل.

يتم نشر هذه المقالة بالتوازي مع نشرها في المصري اليوم