الــــغــــابـــــة

بقلم: كريم عماد
دخل الحكيم من البوابة الكبيرة يتكئ على عصاه، ليستقبله حارس الغابة بابتسامة هادئة. تلفَّت الحكيم يمينًا ويسارًا فتراءت له الغابة شاسعة مترامية الأطراف، ليس لها حدود، فأذهله اتساعها اللامتناهي. نظر إلى الحارس بشغف وقال إنه قادم من عصور قديمة، وقد سمع أن فى هذه الغابة أسوأ ما فى البشر من طباع. فضحك الحارس، وعرض على الحكيم أن يصحبه فى جولة ليستطلع الأمر بنفسه.
أثناء سيرهما البطيء، بادر الحكيم الحارس بسؤال:

  • من يملك هذه الغابة؟
  • إن هذه الغابة ليست ملكاً لأحد، بل الغابة أصلها فكرة، والفكرة خلقت الغابة.
  • إذن هى ملكية شائعة على النحو السائد فى عصورنا؟
  • ليست بالضبط كذلك.
  • وما كل تلك الكائنات الواقفة في كل مكان؟
  • هم حيوانات من الجنسين، ومن كافة الطبقات والفئات.
  • وما الذى يعرضونه؟
  • هم يعرضون الأفكار.
  • هذا شىء عظيم، فقد أفنيت عمري فى القراءة والتأمل فى أمور هذا الكون. ويبدو أن ما سمعته عن طباع سكان تلك الغابة فيه شيء من المبالغة، إذ هؤلاء بالضرورة حكماء مثقفون.
  • أتمنى ذلك.
  • وأي نوع من الأفكار يعرضون؟
  • جميعها.
  • هذا إذن مخزن الأفكار. دعنا نقترب منهم ونتعرف عليهم.

تقدم الرجلان من مجموعة من الشباب، يجلسون وقد بدا عليهم الحماس والغضب، وتعالت أصواتهم. فتحيَّر الحكيم وسأل الحارس:

  • من هؤلاء؟ ولماذا يتصايحون هكذا ويتطاولون على بعضهم البعض؟
  • هم شباب غاضب أتعبهم سوء أحوال الغابة، وهم على خلاف بشأن الطريق السليم.
  • ولكنهم لا يتناقشون بل يتبادلون السباب.
  • إنها الغابة يا سيدى الحكيم.
  • وهل يقرأ هؤلاء الكتب؟ وهل هم على دراية بالفلسفة وشؤون الحكم؟
  • إطلاقًا .. هم لا يقرؤون سوى ما يعرضه كل منهم من أفكار.
  • هذا مؤسف. لنتعرف إذن على ذلك الشاب الواقف بعيدًا.

استمر الرجلان فى السير إلى أن اقتربا من شاب لا يعرض شيئًا على الإطلاق، فتقدم منه الحكيم وسأله:

  • ماذا تفعل هنا؟
  • أنا أتابع ما يحدث عن بُعد.
  • وكيف ذلك؟
  • أقضي يومي متجولاً فى أرجاء الغابة.
  • ولماذا لا تعرض شيئًا؟
  • لا أحب الكلام.
  • لماذا إذن لا تترك الغابة؟
  • لا أستطيع ذلك.
  • لماذا؟
  • لأننى تعودت عليها، كما تعودت على متابعة أفكار الآخرين.
  • أنت إذن فضولي النزعة؟ أم ليس لديك ما يشغلك؟
  • صدقني، أنا لا أعرف جواباً لسؤالك.

ابتعد عنه الحكيم بعد أن ودَّعه بابتسامة مقتضبة وواصل السير مع الحارس. وأثناء سيرهما، لفت نظر الحكيم مجموعات من الشباب تبدو منغلقة على نفسها، فسأل الحارس:

  • من هؤلاء؟ ولماذا لا يتكلمون سوى بتلك الآيات الدينية؟
  • إنهم مسلمون متدينون، وأقباط متدينون.
  • ولماذا يبدون فى حالة تحفز تجاه بعضهم البعض؟
  • هكذا هم منذ زمن بعيد، فهم يتصنَّعون المحبة، بينما تزداد الفجوة بينهما اتساعاً.
  • دعك من هذا التطرف ولنقترب من هؤلاء الحسناوات.

كانت الفتيات الحسناوات مجموعة من صنوف وألوان مختلفة من الفاتنات. إلا أن الحكيم لم يتحدث إلى أي منهن، بل وقف صامتًا يراقب ما تعرضه كل منهن لفترة، ثم التفت إلى الحارس وسأله:

  • ما هذا الكم من الأفكار؟ وما كل هذه الصور؟
  • هُن كذلك .. من عادتهن ألا يبرحن أماكنهن فى الغابة طوال اليوم، إما مستعرضين أو مثرثرين.
  • هذا غريب.
  • لا يقتصر الأمر على هؤلاء النساء وحدهن، بل بعض الرجال هنا يتصرفون مثلهم.
  • أتظنه الغرور وحب الذات؟
  • هذا وارد .. ولكنه قد يكون أيضًا نوع من الحزن الخفي أو الهروب من الواقع.
  • كيف ذلك؟
  • فى بعض الأحيان، يلجأ الحيوان إلى الثرثرة بسبب وبدون سبب من فرط حزنه، باحثاً عما يحرره من قضبان أحزانه وآلام واقعه.

صمت الحكيم متفكرًا في كلام الحارس الذى فاجأه بقوله:

  • فاتني أن أقول لك أن هذه الغابة بها أشكال أخرى من الغرور. أترى تلك المجموعة المتخفية وراء الأشجار بعيداً عن الأعين؟
  • نعم أراها .. يبدو عليهم أنهم مثقفون حقيقيون.
  • هذا صحيح .. هم بالفعل كذلك.
  • وفيم يتناقشون؟
  • هم يُقارنون بين المنهج الفيلولوجى والمنهج التاريخى والمنهج الذاتى فى التأريخ للفلسفة الشرقية القديمة.
  • هذا شيء عظيم. ولكن لماذا ينعزلون هكذا؟
  • إن بعض المثقفين الحقيقيين من فرط غرورهم الفكرى، ومن فرط جهل من حولهم، يلجؤون إلى العزلة الفكرية الانتحارية.

عاد الحكيم الكهل لصمته ثم ما لبث أن شعر بتعب مفاجىء فقال للحارس:

  • لقد تعبت. وأريد الرحيل.
  • لم تشاهد بعد إلا القليل.
  • ولكننى لم أرَ فى هذه الغابة سوى الشجار والسباب، والجهل والفضول، والتطرف والغرور.
  • ليست المسألة بهذا السوء. أنت تحتاج إلى بعض الوقت لكى تشاهد أمثلة أخرى.
  • ربما أعود فيما بعد. ولكن لي سؤال قبل أن أرحل.
  • تفضل.
  • ما اسم هذه الغابة؟
  • اسمها غابة الفيسبوك!