عندما رفضت السيدة "الدوران للخلف"

المصدر: رويترز

بقلم: جمال أبو الحسن

فى عام 1981 كانت شعبية «مارجريت تاتشر» قد وصلت للحضيض. اشتعلت المواجهات فى شوارع لندن بين شباب غاضب يلقى المولوتوف وقوات الشرطة، بعد أن وصل عدد العاطلين إلى 2.7 مليون. بعث 364 اقتصادياً بخطاب إلى صحيفة «تايمز» يدينون فيه سياسة الحكومة الاقتصادية. توقع الكثيرون انسحاب «تاتشر» أو سقوطها أو تراجعها. فاجأت الجميع. مضت فى مسارها. سعت لتخصيص شركات عملاقة مثل بريتيش أيرويز وبريتيش تليكوم. قالت لوزرائها: «تراجعوا أنتم إن أردتم. السيدة- تقصد نفسها- ليست قابلة للدوران للخلف (U-Turn)».

تنفرد «تاتشر» عن غيرها من الزعماء المعاصرين بأنها قائدة لديها فكرة. لديها تصور واضح عما يجب فعله لدفع المجتمع للأمام. بتأثير من نشأتها العادية، آمنت «تاتشر» بأن الإنسان يصنع مستقبله بجهده، وأن الحكومات يجب ألا تتدخل فى إدارة حياة البشر إلا فى الحد الأدنى. لابد أن يعمل الناس قبل أن يطالبوا برعاية الدولة لهم. المزايا التى تكفلها الدولة لا تلبث- إن زادت عن حد معين- أن تتحول إلى عبء على الحافز الاقتصادى. لابد أن يتعلم الناس الادخار، وألا ينفقوا أكثر مما يكسبون.

أنقذت «تاتشر» بريطانيا من هوّة التضخم والانهيار الاقتصادى. قضت إلى الأبد على نفوذ النقابات التى كانت تخنق الحيوية الاقتصادية (خسر الاقتصاد البريطانى 27 مليون يوم عمل فى عام 1979 بسبب الإضرابات المتكررة). لم يكن ما فعلته سهلاً. المزايا الاجتماعية والقطاع العام وحقوق العمال كانت من المسلمات فى بريطانيا. كان على «السيدة» أن تواجه بجسارة وثبات الأفكار اليسارية المتغلغلة فى الإعلام والجامعات والنقاش العام.


اخر استجوابات تاتشر في مجلس العموم حيث وجه لها أحد نواب حزب العمال الاتهام بانه في عهدها ازدادت الفجوة بين الفقراء والاغنياء. فكان ردها الشهير أن “كل مستويات الدخل أصبحت أعلى من 1979 ولكن ما يقوله العضو المحترم هو أنه لا توجد عنده مشكلة في أن يكون الفقراء أفقر، طالما أن الاغنياء كانوا أقل غني.. بهذه الطريقة لن يكون أبدا في إمكانانا خلق الثورة اللازمة للصرف على الخدمات الاجتماعية التي نحتاجها”

أغلب القادة فى عالمنا اليوم يميلون إلى «إدارة الأوضاع». يتحول هذا إلى نوع من «إدارة التدهور». القدرة على تصور واقع مغاير صارت عملة نادرة. الأكثر ندرة هو الجرأة على تغيير الواقع. كان لدى «تاتشر» هذه الجرأة. كانت مستعدة للمخاطرة. صممت على أن تسير فى الطريق إلى آخره.

يمكن تلخيص تراث «تاتشر» فى كلمتين: حتمية الرأسمالية. الرأسمالية نظام للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية يقوم على الملكية الخاصة وتبادل السلع والخدمات بحرية، واستخدام آليات السوق للتحكم فى إنتاج وتوزيع هذه السلع والخدمات. هذا النظام- الذى ازدهر منذ 500 عام- يخلق فرصاً لا محدودة للإنسان للترقى وتحقيق الذات.

مع ذلك، ارتبطت الرأسمالية منذ نشأتها بانعدام المساواة. المنظومة الرأسمالية تقسو على الأقل حظاً فى المهارات والتعليم. البطالة لصيقة بها، لأن هناك دائماً سلعاً وخدمات جديدة تطرد القديمة، وبالتالى يفقد من يقومون بإنتاج السلع القديمة أعمالهم. اقتلاع انعدام المساواة مستحيل. الممكن هو تخفيف حدتها بتوفير تكافؤ فى الفرص. وحتى هذا التكافؤ لا يقضى على انعدام المساواة بشكل كامل، لأن البشر ليسوا سواء فى استفادتهم من الفرص، وهم يتفاوتون بحسب البيئة العائلية التى ينشأون فيها.

أول سلم النهضة هو أن تتحول مصر إلى رأسمالية حقيقية. لن يكون ذلك سهلاً. ربما كانت انتفاضة يناير ذاتها إحدى الثمرات غير المتوقعة لمحاولة خافتة للتحول إلى مسار رأسمالى. خلال السنوات العشر الأخيرة ارتكز الخطاب العام فى مصر على مسلّمات يسارية من نوعية اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء. هذا الانطباع العام لا يعكس الواقع. المقارنة مع دول العالم تعطى صورة مغايرة. يقول المهندس أحمد سرحان فى تدوينة رائعة مدعمة بالأرقام: «80% من سكان العالم يعيشون فى بلدان ذات مستوى من العدالة الاجتماعية أقل من مثيله فى مصر، وبالتالى فإن الثورة بسبب غياب العدالة كان ينبغى أن تقوم فى أغلب دول العالم!».

المصدر: البنك المركزي الأمريكي مقارنة متوسط دخل الفرد في انجلترا (الخط الازرق) بفرنسا، يظهر الأثر طويل المدى لسياسات تاتشر حيث نجحت في تضييق الفارق بين البلدين حتى تخطت انجلترا فرنسا

المصدر: الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي
مقارنة متوسط دخل الفرد في انجلترا (الخط الازرق) بفرنسا، يظهر الأثر طويل المدى لسياسات تاتشر حيث نجحت في تضييق الفارق بين البلدين حتى تخطت انجلترا فرنسا

تواجهنا اليوم خيارات صعبة. الحصول على قرض صندوق النقد يتطلب تعديلات جوهرية فى كيفية إدارة الاقتصاد. حاول الزعماء المصريون، بداية من 1977، تعديل الهيكل الشاذ للاقتصاد الذى يقوم على قطاع حكومى متضخم ومنظومة فاسدة ومبذّرة للدعم. هذا الهيكل الاقتصادى لا يخدم تحقيق التراكم الرأسمالى، ولا الادخار. لا يوفر فرصاً أفضل للشباب للترقى واكتساب المهارات من خلال تعليم جيد. لا يكافئ المخاطرين من أصحاب المشاريع، وهم عماد الحركة الاقتصادية. إنه هيكل مصمم لسد الأفواه بلقمة العيش حفاظاً على الاستقرار السياسى والاجتماعى. الإبقاء على هذا الهيكل الخرب يقتل مصر. يحبسها فى قمقم من العيش على الكفاف. يصادر على مستقبلها.

هل يأتى يوم تسير فيه مصر فى الطريق الرأسمالى دون «دوران للخلف»؟

يتم نشر هذه المقالة بالتوازي مع نشرها في المصري اليوم