من الواقع المصري: الغارمات
بقلم: محمد فؤاد
الواقع المصري يعج بالكثير من الظواهر الإجتماعية التي تستحق الدراسة عن قرب. الكثير منها يطل علينا بوجهه القبيح فنحاول جاهدين التعامل معه دون تفهم أسبابه أو سبل مواجهته بشكل جذري. في هذه السلسلة سنرصد سوياً مجموعة من تلك الظواهر الشائعة للوقوف على أسباب تفشيها و سبل مواجهتها سواء إجتماعيا أو تشريعياً.
حديثنا اليوم عن مشكلة تناولتها وسائل الإعلام بقوة مؤخرا و هي قضية الغارمات. للتوضيح فإن الغارمين والغارمات هم ”كل من عليه دين ولم يستطع سداده”. هي ظاهرة إجتماعية متفشية. حيث شاعت مؤخراً إحصائية تقدر عدد الغارمين و الغارمات في السجون المصرية بنسبة تتراوح بين ٢٠ إلى ٢٥٪ (١) من إجمالي السجناء أي قرابة ال ٢٠ ألف سجين(٢). أما عن الغارمين و الغارمات الذين حصلوا على أحكام نهائية و لكنهم مازالوا خارج السجون، فإن الأعداد تتضاعف حيث أن هناك الألوف من الأحكام النهائية التي مازالت قيد التنفيذ. المؤسف أن السواد الأعظم منهم يواجهون السجن نتيجة لديون لا تتعدى بضعة آلاف من الجنيهات. حيث تشير دراسة أجريت علي عينة ممثلة ل ١٢٠ من الغارمات أن متوسط مبلغ الدين للغارمة في الأجهزة الكهربائية و الأثاث لا يتعدي السبعة الأف جنيه و على الصعيد الأخر هناك من صدرت ضدهن أحكام من أجل ٩٠ جنيه!(٣)
و من خلال متابعة دقيقة لأسباب هذه الظاهرة بالأخص بين النساء، فهي تتلخص في ثلاثة أسباب. السبب الأول و هو الأكثر شيوعاً هو الإستدانة لشراء مستلزمات الزواج. و في هذه الحالة، تقوم الأم بشراء أثاث المنزل أو الأجهزة الكهربائية من خلال معارض بنظام القسط الشهري. و سرعان ما تتعثر السيدة في السداد فيدخل الأمر لساحة القضاء ويتطور بأن تسجن السبدة بالفعل لعدم قدرتها على السداد ما لم يتدخل أهل الخير.
السبب الثاني هو ما يعرف شعبياً ب”الحرق”. و في هذه الحالة تقوم السيدة بشراء سلعة بثمن يكون في الغالب مبالغ فيه نظير قسط شهري و تقوم على الفور ب”حرق” السلعة أي بيعها بثمن بخس للإستفادة من السيولة النقدية لقضاء حاجة ماسة لديها. و سرعان أيضا ما يحدث التعثر في السداد.
السبب الثالث هو الضمانة. حيث تضمن السيدة جارتها أو قريبتها في أشكال من أشكال التقسيط. وحين يتعثر الطرف الأول عن السداد يصير الضامن غارم و تتم مقاضاته. وكثير ما يصيب هذا النوع السيدات الكبيرات في السن حيث يضمنن أقاربهن أو جارتهن في التقسيط الخاص بزيجات بناتهن.
وقد تزايدت حدة هذه الظاهرة مؤخراً نظراً لإستخدام التجار “إيصالات الأمانة” لتوثيق الدين مما يحول عملية البيع والشراء من قضية مدنية يمكن الفصل فيها دون عقوبة الحبس، إلى قضية جنائية تؤدي إلى السجن لسنوات عدة. فالقاضي في هذه الحالة ليس لديه أي حلول أخرى غير سجن الشخص المدين لأن القانون يعتبر الإيصال منزها عن الأسباب.
ولهذه الظاهرة أبعاداً إجتماعية كثيرة. فبالبحث المتأني في الكثير من الحالات نجد أن الأعراف الإجتماعية تلعب دور كبير في تفاقم هذه المشكلة. يجب أن نعترف أن العرف أحيانا يضع المواطن البسيط تحت ضغط نفسي و مادي يدفعه للإستدانة بشكل يفوق قدرته على السداد. فالأم تسعى لتجهيز أبنتها بشكل قد يكون أحياناً مبالغ فيه مقارنة بإحتياجاتها الحقيقية لأن التقاليد (لا الشرع) فرضت تلك المزايدات الواهية التي تفترس الكثير من الغارمات.
ولا نستطيع أن نغفل أيضاً أن لجشع التجار دور أساسي في تفاقم الأزمة أيضاً. فإن التجزئة البنكية و هي البديل لهذا النوع من التقسيط مازالت غير منتشرة بالشكل الكافي حيث لا تتعدى نسبتها ١٠٪ من أجمالي الديون البنكية(٤). فالمواطن البسيط إما يرتاب التعامل مع البنوك أو ليس مؤهل للإقتراض. ومحترفي التقسيط من التجار يعلمون تماما تلك الحقائق. فهم أولاً يقرضون من يعلمون مسبقاً بتعثره لكنهم يعلمون أن سيتدبر أمره بأي طريقة خشية السجن. ثانياً ، الكثير من محترفي التقسيط يبالغون في الأسعار المفروضة إستغلال لحاجة الناس و غياب البديل و أخيراًإستخدام التجار لإيصالات الأمانة كوسيلة لإثبات الدين هو أمر كما ذكرناه شديد الخطورة.
مشكلة الغارمات فى مصر تحتاج إلى حلول تشريعية تتمثل فى إلغاء إيصالات الأمانة وإيجاد شىء بديل، لحفظ حقوق التجار. أيضاً يجب سن قانون الإقتراض العادل أسوة بما هو معمول به في كافة دول العالم المتقدم. فمثلاً، قانون الإقتراض العادل الأمريكي المعروف ب”التشريع زد” ينظم كافة إجراءات الإستدانة و يجعل الإفصاح شرطاً أساسياً في عملية الإستدانة و يعاقب بصرامة كل المخالفين لهذا القانون. كما ان النظام التشريعي ككل يضع المسئولية الأكبر على المُقرض للتأكد من قدرة المقترض على السداد.
إن مشكلة الغارمين و الغارمات أزمة حقيقية من واقع المجتمع المصري يجب علينا مواجهتها بحسم. إنه لشئ رائع أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني و الجيش و أهل مصر الطيبين بسداد ديون الغارمات لكن الأجمل لو عملنا على توعية و تثقيف المواطن بالإبتعاد عن الأعراف المجحفة و شرعنا في سن قوانين تكفل الإقتراض العادل لتنظيم العلاقة بين التاجر و المقترض. الأفضل دائما أن نجتث المشكلة من جذورها لا أن نتعامل مع تابعاتها و للحديث بقية…
-
تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان
-
مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان
-
دراسة ميدانية فعلية أجراها الكاتب مع فريق العمل من واقع ديون مجموعة من السيدات في القاهرة الكبرى. الكاتب مؤسس مبادرة “علشان الخير يعم” بالجيزة؛ و التي تعنى بتطوير المجتمع عن طريق توفير الخدمات الصحية، مساعدة الغارمات و توفير فرص التدريب و العمل
-
Gabor, David. Retail Banking in Egypt: an oasis for growth, away from the storm.