ان تقرأ طالب في اسوان
بقلم: وائل السحار1–
سافرت للمرة الاولى الي أسوان في ديسمبر 2012 علي متن احدى السفن النيلية. الوصول لأسوان عن طريق النيل يختلف عن الطيران إليها. الوصول عن طريق النيل يعطيك الفرصة لفهم المكان أكثر كامتداد لِوادٍ متصلٍ خَلَقَ النيلُ تكامله عبر العصور وتزامنت أنفاسه على إيقاع النهر فيضانا و انحسارا. زراعة و حصاداً. الوصول عبر النهر هو وصول عن طريق مجرى الدم الذي ربط أعضاء جسم واحد عبر السنين. أما الوصول عن طريق المطار فهو وصول مرتاب يمر عبر بوابات كشف المعادن ومقدمي الشرطة المدججين بالسلاح و القلق، يعدُّون الأيام حتى ينتهي عام التكليف في الصعيد ليتمكنوا من العودة الي القاهرة حيث عائلاتهم و الترقية والوظيفة المكتبية المريحة. الوصول عن طريق النيل هو وصول طبيعي و لكن الوصول من المطار هو وصول مصطنع عن طريق دولة القاهرة المركزية. أيضاً يقع المطار في البر الغربي ولا يقطن البر الغربي عند قدماء المصريين سوى الأموات.
نسيم نقولا طالب هو كاتب و فيلسوف و تاجر في الأوراق المالية من اصل لبناني. يعتبر من اهم مفكري العالم اليوم و اكثرهم قراءة . يهتم في كتاباته بدراسة أصول المعرفة و نظريات الشك و الاحتمالات. برز على الساحة العامة بعد أن توقع حدوث الأزمة المالية عام 2008 في كتابه The Black Swan “البجعة السوداء” الذي سلط فيه الضوء على خلل رئيسي في النظريات العلمية و المالية السائدة، ألا و هو الاعتماد على أحداث الماضي في توقع المستقبل2. أحدث كتبه هو Antifragile (وهو اسم يصعب ترجمته الي العربية و ان استخدمنا مصطلح “ال-لاهشّ” تجاوزا) وهو الكتاب الذي بدأتُ قراءته أثناء تلك الرحلة الى أسوان. لشرح علاقة اللاهشاشة بأسوان دعني أصف لك – ببعض التفصيل- الفكرة الأساسية للكتاب.
“اللاهشاشة” كفكرة فلسفية عند طالب هي عكس الهشاشة، و ليست الصلابة هي عكسها كما تعارف الناس. لتوضيح هذا المفهوم يضرب الكاتب المثال الآتي: لنفترض انك ترسل صندوقاً من الكؤوس الزجاجية لقريب لك في بلد آخر، ولأن الكؤوس هشة (سهلة الكسر عند التعرض لضغط خارجي) فانك ستكتب بحروف بارزه على الصندوق “احترس. سهل الكسر. برجاء التعامل برفق“. في المقابل، لو كنت ترسل كتاباً الى قريبك، فربما لن تكتب أي شيء حيث ان الكتاب صلب (صعب الكسر تحت الضغط الخارجي). و لكن بالنسبة لطالب فالصلب ليس عكس الهش. عكس الهش هو ليس الشيء الذي فقط لا يتلف تحت الضغط الخارجي، و لكنه أيضا الشيء الذي يستفيد من هذا الضغط. إذا أرسلت صندوقاً يحتوي شيئاً لاهشّاً فلربما ستكتب عليه “برجاء التعامل بلا مبالاة” حيث أنك تفضل وقوع الضرر على هذا الشيء. قد يبدو المثال خيالياً ولكن في الحقيقة فان الطبيعة مليئة بتلك الأشياء. فجسم الإنسان مثلا يستفيد من الضرر بمقدار معين فالمناعة – مثلا- تزداد عند التعرض للبكتيريا أو الفيروسات الضارة، وما اللقاحات المختلفة إلا جرعات صغيره من مؤثر خارجي يُقوي الجسم حين التعرض إليها.
الفكرة المرتبطة بهذا الفهم للاهشاشة هي تدرج الهشاشة. فجسم الانسان لاهشّ بالنسبة للقاح معين لان بعض الخلايا تموت عند التعرض إليه مما يقوي مناعة الخلايا الأخرى التي لم تمت. وبالمثال فالبشرية لاهشّة للمرض عموما لان بعض الناس تموت منه مما يقوي مناعة النوع كله للمرض بمرور الوقت. والطبيعة لاهشة عند انقراض نوع من أنواع المخلوقات حيث تتكيف الانواع الأخرى وتعود إلى حالة توازن جديدة حتى بعد غياب النوع المنقرض. إذاً فالجسم الكبير يَقْوى ويستفيد من فشل المكونات الصغيرة ولو كان جسم الإنسان عبارة عن خلية واحده لمات عند التعرض لأبسط الفيروسات. ولو كانت البشرية عبارة عن انسان واحد لانتهت عند موته. ولو لم يكن في الطبيعة إلا نوع واحد من المخلوقات لانتهت الطبيعة عند فناء هذا النوع.
ينطلق الكتاب من تلك الفكرة ويستعرض تطبيقاتها المختلفة في شتى المجالات من الاقتصاد إلى الطب إلى المعاملات المالية. في مختلف تلك المجالات يحاول الكاتب توضيح أن معظم العلوم الحديثة أغفلت مفهوم اللاهشاشة (أن ما شفي قليله لا يشفي بالضرورة كثيره والعكس) بسبب اعتمادها على رصد تجارب قليلة ثم محاولة استنباط السلوك المستقبلي و النظريات العامة بناءاً عليها. نتيجة هذا التبسيط هوالنزوع للتدخل في كل شيء لتصحيحه. فمثلا إن كان ضغط الدم العالي يشكل خطراً على القلب، فان الكثير من الاطباء اليوم ينصحون مرضاهم بأخذ أدوية ضغط الدم عند أبسط ارتفاع في الضغط حتى وإن كان الارتفاع عابراً أو أقل من المستويات الخطرة، لاعتقادهم أنه إن كان الارتفاع الكبير في الضغط ضاراً كثيرا، فان الارتفاع القليل ضار قليلا (وذلك غير ثابت علميا إلا في القليل من الدراسات التي يشكك الإحصائيون في صحتها). وبالمثل فالحكومات لإيمانها أن معدلات عالية من البطالة خطره، تتدخل مع أبسط زياده في البطالة (حتى وان ثبت بعد ذلك أن هذه الزيادة كانت لِخطأ في طريقة القياس، أو أنها كانت زياده لحظية). وفي كل تلك الاحوال فالمشكلة الحقيقية ليست ان التدخل كان غير مطلوب فقط، ولكن المشكلة أن هناك دائما أثاراً سلبية لأي تدخل في طبيعة الامور. فالدواء يسبب أثاراً جانبية، ومحاولة الحكومة تقليل البطالة قد تؤدي إلى التضخم. هذا بالنسبة للأثار الجانبية التي نعرفها؛ بالطبع هناك الكثير من ردود الافعال الأخرى التي يستعصي علينا معرفتها أو فهمها، والتي قد تكون أشد خطورة حتي.
الجسم الكبير يَقْوى ويستفيد من فشل المكونات الصغيرة ولو كان جسم الإنسان عبارة عن خلية واحده لمات عند التعرض لأبسط الفيروسات. ولو كانت البشرية عبارة عن انسان واحد لانتهت عند موته
كنت قد وصلت إلى أسوان بعد أحداث الاتحادية بأسبوعين. وبالطبع قرأت الكثير عن كساد السياحة قبل أن أصل، ولكن من رأى ليس كمن قرأ. الكساد في أسوان ليس من النوع الشائع على شاشات التلفزيون أو صفحات الجرائد. لا يحاصرك المتسولون في الشارع ولا يضايقك التجار في السوق. بالعكس. تبدو المدينة جميله على عادتها. كل شيء يسير بانتظام ويسر حتى تظن أنك انتقلت إلى بلد اخر. أشرت إلى تاكسي وركبت. سألني السائق أن ادفع “اللي أنا عاوزه” على عادة سائقي الأجرة في مصر وإن بدا لي أنه كان جاد في عرضه. تطرق الحديث – كما يتطرق دائما – إلى الاوضاع السياسية في البلد وتأثيرها على السياحة وهو الموضوع الذي بدا عليه الملل من مناقشته مع كل راكب. اقتصرت اجاباته علي “الحمد الله”، “ان شاء الله خير” حتي أدرك أني من مصر الجديدة فقال “معلش بقي، انتوا السبب في اللي احنا فيه” ثم اتبعها بابتسامة محرجه وكانه خشي أن أفهم ملاحظته كهجوم أو عتاب شخصي. عندما طمأنته أني أتفهم سبب ضيقه، انطلق “احنا بقالنا سنتين في الحال ده. أنا بشتغل زي ماكنت بشتغل قبل كده واكتر. البلد زي ما أنت شايف اهو أمان، والمحافظ الجديد راجل محترم. حتي الشرطة تعاملهم اتحسن مع السواقين. بس مفيش رزق” “الاجانب بيشوفوا في التلفزيون ناس بتقتل في بعضيها. هي دي مصر. الاجنبي مش فاهم أن أسوان غير اسكندرية غير القاهرة. كله عنده واحد”. أطرق برأسه “عايزين نخلص بقى” ثم سكت في حزن. بدا لي أنه عني أكثر من مجرد الخلاص من موجة الاحتجاجات الحالية
في الانظمة السياسية، يعتقد طالب أن الدولة القومية الموحدة هي كيان هش في حين أن الدول التي تكونت من مجموعه من المدن والمقاطعات شبه المستقلة هي كيانات لاهشة، ويضرب مثل بسويسرا. فسويسرا ليس بها حكومة مركزية قوية، ولكنها مجموعة من الكانتونات شبه المستقلة والتي تتمتع بصلاحيات واسعة كتشريع القوانين وفرض الضرائب. السبب الأساسي لهذا الرأي هو أن الدولة الموحدة تتأثر جميع أجزائها باي مشاكل تحدث في أي جزء اخر، أو أي قرارات خاطئة تتخذها الحكومة المركزية. في الانظمة الفيدرالية كسويسرا العكس هو الصحيح: فأي مشاكل أو قرارات خاطئة في كانتون من الكانتونات تعتبر تجربة تستفيد منها الكانتونات الأخرى وتتأقلم فيقوى الكل على حساب الجزء الذي تأثر. فمثلا إذا قررت حكومة من حكومات الكانتونات زيادة الضرائب وأدّي ذلك إلى هروب الشركات منها، تستطيع الكانتونات الأخرى تقليل ضرائبها بسرعة لجذب رأس المال الهارب من ذلك الكانتون، فلا تتأثر سويسرا ككل بغلطة مقاطعة واحده، بل تستفيد من تجربة حية لتأثير سياسة الضرائب، ستساهم في المستقبل في عدم الوقوع في نفس الخطأ. ولان الكل (سويسرا) مازال بصحة جيدة فحتى الكانتون المخطئ سيستطيع الاعتماد على الحكومة الفيدرالية و الكانتونات الاخرى ليجد الوقت الكافي للتعافي.
يقترح طالب أن من الأسباب الاخرى لأفضلية الحكومات المحلية عن الحكومات المركزية هي الطبيعة المعرفية للبشر. فنحن – عامة – لا نجيد التعامل مع المفاهيم المجردة، ونفضل ما يمكنا أدراكه بشكل مباشر. فأغلبنا قد يتأثر لرؤية طفلا يبكي أو مريضا يتألم، ولكن قد لا يتأثر بنفس القدر بخبر موت العشرات في حادث سيارة في مدينة أو بلد أخرى. ولكن معظم ما تتعامل معه الحكومات المركزية هي مفاهيم مجردة. فأن تقرأ كمسئوول أن معدل البطالة هو 12% أو أن معدل التضخم 20% يختلف بشكل أساسي عن أن تقابل بعد صلاة الجمعة في المسجد – كمسؤول محلي – شخصاً لا يستطيع شراء قوت يومه بسبب زيادة الاسعار وقلة فرص العمل. مع الوقت ينفصل المسؤولون في الحكومة المركزية عن الناس (وحتى وإن حاولوا فمن المستحيل عمليا التواصل مع 85 مليون مواطن في بلد بحجم مصر). أما المسؤولون المحليون – خصوصا ممن لم يُعيَّنوا من قِبَل الحكومة المركزية، و لم يرسلوا من العاصمة – فلا يستطيعون الهروب من مواجهة الناس كل يوم، وان أخطأوا فسيستشعروا ردة الفعل بشكل فوري، مباشر، وشخصي (ربما في تجنب الناس لهم، أو عدم سماح المواطنين لأولادهم باللعب مع أولاد المسؤول، الخ)
دارت تلك الافكار في ذهني وأنا أعبر بوابة الأمن في طريقي إلى معبد فيلة. كان الضابط المسؤول عن البوابة بشوشاً بشكل ملفت، فمثلا كانت في مجموعتنا امراه حبلى فسألها بابتسامة أن لا تعبر من بوابة كشف المعادن خوفا على الجنين. نظرت إلى المرشد بإعجاب، فبادرني “سيادة العقيد فلان (لا أتذكر اسمه) رجل غاية في الاحترام. هو من سوهاج بس بقاله معانا سنين، وكل الناس هنا عارفينه”.
معبد فيلة، لمن لم يزره، هو من أعظم واجمل المعابد الفرعونية. ما أن دخلته حتي عاد إلى ذهني السؤال الذي طالما الحَّ علي في تلك الرحلة: إذا كانت الدولة المركزية هشة، فكيف تمكن قدماء المصريين من بناء تلك الحضارة العظيمة في ظل دولة مركزية قوية؟ طبعا بسبب بطئ الاتصالات في ذلك الوقت، تمتع حكام المقاطعات ببعض الاستقلالية (حيث احتاجت الاخبار بعض الأيام لتصل للعاصمة، ثم بعض الأيام الأخرى لتصل القرارات من العاصمة للمقاطعات)ولكن حاكم المقاطعة كان في معظم الوقت يُعَيَّن من العاصمة، ويتم اختياره من بين طبقة الكتبه المتعلمين، أي من صلب بيروقراطية العاصمة، وبالتالي كان ولاؤه التام لها. ومع ذلك نجحوا في بناء حضارة قوية صمدت لآلاف السنين.
بالنسبة لطالب الزمن هو الحاكم الفيصل في تحديد هشاشة أو لاهشاشة الاشياء. فالكؤوس الزجاجية في المثال السابق قد تصمد لوقت طويل، ولكن تتابع الخبطات وتنوع شدتها سيؤدي في النهاية إلى كسر تلك الكؤوس مهما طال الزمن. ولا توجد طريقة لرجعوها لحالتها الاولى بعد كسرها. في المقابل فالإنسان يمرض ثم يتعافى فيعود أكثر قوة لاكتسابه المناعة من ذلك المرض3. والبشرية تُبتلى بأوبئة ولكن تتعافى بعد التخلص من حملة الجينات الاكثر عرضة للتأثر بهذا الوباء، وهكذا. وبالتالي فحتي وان لم نفهم القوانين أو النظريات التي تجعل الكأس الزجاجي هشاً و البشرية لاهشَّة، فمجرد نجاح البشرية في الصمود والازدهار عبر الزمن هو دليل على لاهشاشتها. فالحكمة في الزمن، والنظريات والقوانين في تغير.
في تلك اللحظة كانت قد أخذتني قدماي إلى قدس الاقداس في داخل المعبد. ذلك الجزء الذي حُرِّم على عامة الناس ارتياده، واقتصر دخوله قديما على الفرعون وكبير الكهنة حيث يكلمون فيه اله المعبد. اليوم أنظر حولي وأري الناس من جميع الجنسيات والاعمار يمرون به، معجبين ولكن غير خاشعين. ما كان في يوم من الأيام رمزاً ودليلاً على قوة الفرعون وحكومته وديانته وإلهه، أصبح اليوم مجرد مزار لربما نساه معظم الزوار بعد الخروج منه. فالزمن قد تكفل بفض قوة الفرعون وحكومته وديانته وإلهه.
خرجت من المعبد وقد تملكني تقدير من نوع جديد لقدماء المصريين. فلربما لم يكن نموذج الدولة هو أهم ما تركوه لنا ولكن تجربة الدولة التي لم تعش هي ما يجب أن نشكرهم عليه وان نترك محاولة إحيائها.
هوامش
-
اسم المقالة يحاكي اسم رواية اذار نفيسي “ان تقرا لوليتا في طهران” عن مقاومتها الصامتة للنظام الشمولي الذي نشأ في ايران بعد الثورة وحاول فرض الرقابة على مختلف أنواع الكتب بدعوي ترويجها للانحلال الأخلاقي و الإمبريالية الغربية. يبدو لي ان التشكيك في حتمية الدولة المركزية في مصر لا يقل خطورة في نظر النخبة المصرية عن رواية نابوكوف عن ولع البروفيسور المتقدم في السن بطفله في الثانية عشر من عمرها في نظر ملالي ايران
-
اسم الكتاب يشير الي انتشار استخدام تعبير “البجعة السوداء” في الغرب حتي القرن السابع عشر لوصف حدث أو ظاهره مستحيلة الحدوث حيث كان كل البجع المعروف لدي الأوربيين في ذلك الوقت ابيض. لو طبقت الطرق الإحصائية المستخدمة حاليا (والتي تفترض أن الاحداث في المستقبل تحدث بنمط مشابه لحدوثها في الماضي) في هذا الوقت ، لتوقعت بنسبه عالية من الثقة ان أي بجعه تقابلها ستكون بيضاء بنسبة ١٠٠٪. و لكن في عام ١٦٩٧ قابل المستكشفون الأوربيون بجعه سوداء للمرة الأولي في استراليا مما كان سيبطل توقعك المبني علي أسس علميه متينة. يري طالب ان معظم الأحداث المهمة في التاريخ هي من عينة “البجعة السوداء” و بالتالي من المستحيل توقعها وان أي توقع أو خطه مبنيه علي افتراض ان ما حدث في الماضي سيحدث في المستقبل عرضه للفشل بسبب حدث من عينة اكتشاف البجعة السوداء
-
بالطبع يموت الإنسان في النهاية، ولكن ليس بالضرورة من المرض الذي تعافي منه. وحتي بموت الإنسان من مرض معين، فالبشرية تستفيد بالتخلص من جيناته القابلة لهذا المرض وتقليل تأثيرها في الأجيال المقبلة