لا لمجانية التعليم

كلية التربية، جامعة عين شمس

بقلم: أحمد فتيحة

إذا كنت طالبا مصريا في مرحلة الثانوية, سيقولون لك أنك في مرحلة مصيرية, مرحلة ستحدد مستقبلك. عليك أن تذاكر بعنف. هدفك هو المجموع. تلتحق بكلية “محترمة” ثم تحصل علي وظيفة “جيدة” وتبدأ حياتك العملية.

مشكلة هذا الطريق, يا صديقي, هو أن نهايته لن تكون سعيدة وسلسة كما صور لك. ففي الغالب, ستلتحق بتلك الكلية المحترمة, وستتخرج بعد أربع سنوات أو أكثر, ولكنك ستنضم إلي صفوف المليون عاطل جامعي فترة لا بأس بها قبل أن تجد فرصة عمل “جيدة”, “تناسب مؤهلاتك”.

اتذكر اعلانات وزارة القوي العاملة أيام عائشة عبد الهادي وهي ترجو الشباب أن يعملوا في أي وظيفة دون انتظار الوظيفة المثالية. طلبك سخيف يا معالي الوزيرة, كيف تتوقعيين ممن قضي اربع سنوات او اكثر من عمره في دراسة المحاسبة, او الهندسة أن يرضي بوظيفة حارس أمن او محصل فواتير. أكاد اسمع احد خبراء التوك شو يقول ” الدولة المفروض توفر وظايف لحملة الشهادات, مش معقول واحد معاه بكارليوس يشتغل سواق تاكسي”.

لأ معقول يا سيدي. الجامعات المصرية تنتج حوالي 280 الف خريج كل عام 1,2 وهذا رقم يفوق طاقة استيعاب سوق العمل في خلق الوظائف, ولذلك بخست مرتبات الجامعيين, وتضائلت فرصهم. أصلا, تشير الإحصائيات أن حوالي واحد من خمسة من حاملي الشهادات العليا في مصر لا يجد فرصة عمل 3. هذه اعلي نسبة بطالة مقارنة بحاملي المؤهلات المتوسطة والأقل من المتوسطة او من لا يحملون شهادة اصلا أو حتي الأميين.

جزء من هذه المشكلة, كما يشكو اصحاب الأعمال في كثير من المحافل, ان كثير الخريجيين لا يمتلكون المهارات التي يطلبها سوق العمل. ولذلك نجد أكثرية موظفي الشركات المتعددة الجنسيات أو البنوك الأجنبية في مصر متخرجين من جامعات خاصة مثل الأمريكية أو الألمانية او عدد محدود من الكليات الحكومية مثل كلية السياسة والاقتصاد. هذا بينما الألاف المؤلفة من خريجي بقية الجامعات المصرية يتنافسون علي وظائف في شركات مغمورة بمرتبات معدمة.
علي أية حال, الواقع الحزين يظهر أنه ,في المتوسط, فرصة خريج الجامعة المصري في الحصول علي وظيفة أقل من الأمي الذي لا يستطيع كتابة حتي أسمه وعنوانه 4.


يطالعنا اليساريون في مصر بالشعار الرنان “التعليم ليس سلعة” أو “التعليم حق للجميع” ليطالبوا الدولة بتوسيع نطاق مجانية التعليم العالي والغاء ما استحدث من مصاريف ورسوم رمزية يدفعها طلاب الجامعات الحكومية. وكأن تدني مستوي التعليم الجامعي, والمدرجات المكتظة بالطلبة وتوحش شبكات الدروس الخصوصية لا يكفي كسبب لإعادة النظر في نظام التعليم الجامعي المصري المبني أساسا علي مفهوم “المجانية”.

أنا لا اتجني علي مجانية التعليم ولااحمله ظلما مسئولية انحطاط التعليم العالي المصري دونا عن غيره من الأسباب. ولكن قليل من التفكر يظهر ابعاد المشكلة, وبوضوح.

خطيئة المجانية الأكبر تكمن في انها تجعل من الالتحاق بالجامعة خطوة بلا عواقب وبلا تكاليف.بعض الطلاب قد يلتحقوا لرغبتهم في التعلم, بينما البعض الأخر للوجاهة الإجتماعية. او التعرف علي الفتيات. أو لتأخير التجنيد. أو, وهذا أخطر الأسباب في رأيي, لأن جميع أقرانهم يلتحقون بالجامعة. مجرد وجود تلك النوعية من الطلاب, وهم بالتأكيد موجودون في الجامعات المصرية, معناه أن أموال الدولة تهدر في تقديم خدمة تعليمية لمن لايستحقها بل لمن لا يريدها في الأساس.

خطيئة المجانية الأكبر تكمن في انها تجعل من الالتحاق بالجامعة خطوة بلا عواقب وبلا تكاليف

ليس هذا فحسب, بل ان مجانية التعليم تفتح المجال للإستهتار الدراسي. أتخيل أن عدد الطلاب الذين يتغيبون عن المحاضرات ويرسبون عن قصد سينخفض دراماتيكيا إذا أدركوا أن كل محاضرة تفوت وكل سنة ترسب تكلفهم مبالغ ليست بقليلة من النقود. علي العكس, سيحاول الطلبة الاستفادة من العملية التعليمية قدر المستطاع, كما هو الحال في أي خدمة يحصل عليها الفرد مقابل ثمن.

الخطيئة الثانية هي أن اعتماد الجامعات علي تمويل الدولة تجعلها رهينة لأهواء السياسة بدلا من أن تخضع لمعايير العرض والطلب في سوق العمل. فقد ترغب الدولة في أن تؤخر دخول الألاف إلي سوق العمل حتي تبقي أرقام البطالة منخفضة صناعيا فترفع اعداد المقبولين فوق طاقة استيعاب الجامعات. أو ربما يخرج أحد السياسيين ليزايد علي منافسيه ويعد برفع أعداد المقبولين في الجامعات حتي يضمن أصوات أولياء الأمور. فنجد مدرجات كليات التجارة, مثلا, أشبه ما تكون لمدرجات ملاعب كرة القدم, , مليئة بالضوضاء, سيئة التهوية, كريهة الرائحة.

ومن ناحية أخري تمويل الجامعات من ميزانية الدولة بدلا من مصاريف يدفعها الطلبة يجعلها في مهب ريح التقلبات الإقتصادية. فنجد أنه إذا ارتفع سعر القمح مثلا, وهي سلعة لاترتبط بالتعليم من قريب أو بعيد, فتحدث زيادة في المصروفات والعجز وبالتالي تضطر الحكومة للإستقطاع من بند التعليم حتي تفي بإلتزاماتها في بند الغذاء.

الخطيئة الثالثة هي أن مجانية التعليم, تقتل الحافز لدي الجامعات لرفع مستوي الخدمة التي تقدمها. فبدلا من أن تتباري الجامعات في تطوير مناهجها وأساليب تدريسها لتقديم افضل خدمة, وبالتالي جذب أنبه الطلبة مع تعظيم الدخل, يتم توزيع عدد محدد مسبقا من خريجي التعليم الثانوي علي الجامعات بحسب سعة كل جامعة والكثافة السكانية للمنطقة التي تقع بها. تلك الخطيئة نراهل كلاسيكيا في جميع مؤسسات القطاع العام الذي تحميه الدولة من للمنافسة: وقل لي, هل تفضل قيادة سيارة نصر أم سيارة هيونداي؟


ربما يتسائل البعض, أليس وجود التعليم المجاني أو شبه المجاني ضرورة لإتاحة الفرصة لمن هم أقل حظا في الحصول علي التعليم العالي؟ ربما, ولكن علينا أن ننظر إلي نقتطين.

أولا, يجب أن ينظر للتعليم الجامعي علي أنه استثمار يؤتي ثماره لاحقا. فخريج الجامعة, نظريا علي الأقل, سيستطيع الحصول علي وظيفة أفضل من غيره. وبالتالي فهو سيحصل علي منفعة وعليه دفع ثمن ما. ودعني أسألك: لماذا أفرض عليك, , وأنت مواطن مثلي مثلك, أن تستقطع جزء من دخلك لتدفع ثمن تعليمي الجامعي؟

ثانيا, ليس معني الغاء المجانية أن دخول الجامعات سيقتصر علي الأغنياء فحسب. هناك اختيارات كثيرة للتمويل أهمها القروض الدراسية والتي يقوم الطالب بردها بعد تخرجه من الجامعة. كما أن الطلبة النابهين عادة مايحصلون علي منح من شركات أو من الجامعات نفسها.

ناقش مقال سابق في عين العقل بعنوان “البلاش كتر منه”  فكرة مجانية التعليم من منظور اخر، فبينما احاول في هذا المقال توضيح التكلفة والنتائج الاقتصادية المترتبة علي مجانية التعليم، حاول أمين في المقال الاخر مناقشة الفكرة من منظور الحرية الشخصية، والحقيقة ان هذين المدخلين في منتهي الاهمية لمناقشة كل القضايا المتعلقة بالحرية الاقتصادية، وستجد عزيزي القارئ ان هاذين المدخلين هما الركيزتان الاساسيتان لفهم مغزي ونتائج الاقتصاد الحر. فمن ناحية هناك فكرة “فلسفية” ليس لها بعد اقتصادي، هذه الفكرة تعتمد اساسا علي ان الحرية الاقتصادية لا تنفصل عن الحرية الشخصية، فبينما يتفق قطاع كبير من البشر علي اهمية حرية الرأي والحريات الشخصية بشكل عام كحق اصيل للانسان، يختلف الناس اختلافا كبيرا فيما يتعلق بالحرية الاقتصادية، كأن للانسان حق في ارائه ولكن ليس له حق في نتاج عمله، وكما اوضح امين رشدي في مقاله المذكور فان مصادرة الحرية الاقتصادية للاشخاص تؤدي بالضرورة الي الجور علي حريتهم الشخصية. ومن هذا المنطلق فان هذا المدخل يري ان الحرية الاقتصادية ركيزة واجبة من اجل تحقيق حرية الانسان بغض النظر عن اي نتائج اقتصادية مترتبة عليها.

اما المدخل الثاني فهو ما حاولت توضيحه بصورة مبسطة في هذا المقال، وهو مدخل اقتصادي، يتجاوز الفكرة الفلسفية الي مناقشة التكلفة والنتائج المترتبة علي الحرية الاقتصادية للافراد، وليس مستغربا انه في كل القضايا نجد ان دائما ما يكون النظام القائم علي حماية الحرية الاقتصادية للاشخاص هو اكثر الانظمة كفاءة في استخدام الموارد، وبينما تؤدي دائما الانظمة الاقتصادية التي تسعي “للمساواة” كهدف اسمي الي اهدار حاد في الموارد الي جانب فشلها في تحقيق العدالة المنشودة.


مصادر:

  1. راجع صفحة المجلس الاعلي للجامعات (رابط) وحصر اعداد الخريجين في الجامعات والمعاهد العليا في عام 2010/2009

  2. راجع المقالة بقلم كلير بروفست في جريدة الجارديان العدد الصادر بتاريخ 3 اغسطس 2011 بعنوان “مصر: التعامل مع بطالة الشباب” (رابط)

  3. راجع مقالة وفاء البرادعي في الاهرام اليومي العدد الصادر بتاريخ 9 اغسطس 2010 بعنوان “حملة المؤهلات العليا الغالبية العظمي من البطالة في مصر” (رابط)

  4. راجع تقرير التنمية البشرية في مصر لعام 2010 الصادر عن البرنامج الانمائي للأمم المتحدة – الباب الرابع صفحة 43 (رابط)