مسرح عرايس
بقلم: وائل السحار
ناس سألوني ليه حورس ترك فرعون مصر الرئيس مبارك يترك الحكم ويسجن ؟؟ ردي عليهم : ” وما خلعوه وما سجنوه ولكن شبه لهم ” !! – سامح أبو عرايس
قد يكون سامح أبو عرايس من أشهر الشخصيات المصرية على فيسبوك. سيرته الذاتيه المعروضة على صفحته تدعو للإعجاب:” رئيس الجمعية العربية للمحللين الفنيين وخبير البورصة والعملات”. بعض المعارف ممن قابلوه أو على معرفه بعمله رأوا أنه محلل فني ناجح بالفعل. ولكن لم يكن هذا هو السبب الذي دفع حوالي ٥٠ ألف شخص (وكاتب هذه المقاله منهم) لمتابعة صفحته على الفيسبوك بشغف. في الحقيقة لا يتكلم سامح عن مجال عمله كثيرا على صفحته الشخصية. معظم طاقاته موجهه لكشف تفاصيل مؤامرة معقده دبرتها أجهزة المخابرات الدولية تحت أشراف الماسونية الدولية وبايعاز من الإله ست وبالتعاون مع شركات متعددة الجنسيات ووكالات اعلانتهم. هدف المؤامرة غير واضح: في البداية كان الهدف هو الانقلاب على الرئيس السابق حسني مبارك (يعتقد سامح أن مبارك فرعون كما هو واضح في الإقتباس أعلاه)، ولكن مؤخرا أخذت المؤامرة أبعاد كونية في سبيل منع مصر من الحصول على شفرة الإله حورس التي ستمكنها من الاتصال به لتكوين امبراطورية عظمي تحتل مكان أمريكا وأوروبا اللذان سيخسران مكانتهما بعد فقدان الشفرة.
إن بدا لك ما تقدم مثل حبكة رواية شيقة على شاكلة روايات دان براون فستتفهم سبب أعجابي (الحقيقي) بسامح. فالرجل بالتأكيد لديه موهبة أدبية عظيمة. القليل فقط من الكتاب يستطيع إنتاج حبكات درامية شيقة بتلك الغزارة (ينشر سامح تحديثات لصفحته بمعدل ٣-٤ مرات في اليوم). الأهم من ذلك هو قدرته على التكيف مع الأحداث في العالم الحقيقي ونسجها داخل هذا العالم الثري الذي ابتكره حتي وان تعارضت مع أحداث أو تفسيرات سابقة قد يكون عرضها (على سبيل المثال: تأثر سامح بشكل كبير باحداث رابعة العدوية العام الماضي مما دفعه لاعتبار أن السيسي لابد أن يكون من أجنحة المؤامرة الماسونية، حيث أن حسني مبارك – وهو المقياس الأوحد للخير في عالم سامح – ما كان ليُقدم على تلك الفعلة؛ لاحقا أقتنع سامح أن السيسي في الحقيقة في معسكر الإله حورس وان أفعاله في البدء كان هدفها تضليل الماسونيين بايهامه أنه منهم).
ولكن تحت غطاء تلك الموهبة التي قد تبدو للبعض نتاج حالة نفسية معينة فإنتاج سامح – كإنتاج اي فنان موهوب – يكشف لنا شخصية المجتمع الذي يعيش فيه والطباع الفكرية التي تحكمه. أو كما قال شكسبير على لسان أحد شخصياته في مسرحيته الأشهر، هاملت “وحتي إن كان هذا جنون ،فلهُ منهجه”
“منهج” أبو عرايس هو نتاج الصدام العنيف بين فكرتين سيطرت إحداهم على العقل المصري لمدة طويلة (لربما منذ أخذ الناس صراع ازوريس و ست بجدية لاخر مرة)، أما الأخري فقد وردت علي مجتمعنا في أخر ١٠٠-٢٠٠ سنة وإن لم تتمكن منه فان نسخاً مشوهة منها نجحت في ذلك.
الفكرة الأقدم هي أولوية التفسيرات الغيبية على التفسيرات المادية. بالنسبة للمؤمنين بهذه الفكرة فتقدم الأمم والأفراد لا يمكن أن يكون بسبب اجتهادهم أو علمهم أو مبادئهم ولكنه نتيجة لاتصال بقوي خارجة عن ادراكنا الطبيعي تمكنهم من تحقيق ما فشلنا نحن كأفراد في الوصول إليه. أو كما شرح أبو عرايس في أحد تعليقاته:
السر في النهضة الصناعية والتكنولوجية الهائلة التي حدثت في الغرب في اخر 200 سنة هي علوم وشفرات السحر التي سرقتها الحملة الفرنسية من مصر بقيادة نابليون بعد الثورة الفرنسية الماسونية . وتم فك طلاسم المعابد الفرعونية السحرية والتي مكنتهم من التواصل مع لوسيفر والهة الفراعنة القدماء . وبذلك انتقل مركز الحضارة الحديثة الى الغرب حيث عائلة روتشيلد التي مولت أول ثورتين ماسونيتين في فرنسا وبريطانيا . وبينما أقنعنا شامبليون بأن ما على المعابد الفرعونية والبرديات هي مجرد لغة مكتوبة أخفى السر الحقيقي وهو أنها شفرات سحرية لطقوس لتسخير قوى ما وراء الطبيعة ساعدت المصريين القدماء على أن يبنوا حضارة كبيرة . وبانتقال هذه الأسرار الى الغرب وتحت سيطرة اليهود وأحفاد فرسان الهيكل ” البناؤون الأحرار أو الماسونيون ” انتقل مركز الحضارة الى الغرب وتحققت الطفرة التكنولوجية التي نراها الان
جاذبية تلك الفكرة واضحة. فالعالم مكان معقد للغاية والتاريخ الانساني تاريخ طويل مليئ بالتفاصيل التي يصعب على أي إنسان واحد إدراكها وفي ظل الفجوة العميقة بين الغرب وبيننا فمن الأسهل عدم تضييع الوقت في فهم أسباب تلك الفجوة و إحالة أسبابها لعالم الغيب (وان أضاف أبو عرايس نكهة نرجيسيه لهذا التفسير بزعم أن حتي وان كانت قوي غيبية هي السبب في تقدم الغرب، فان تلك القوي الغيبية هي قوي غيبية مصرية اصلاً).
من السهل الدفع بأن أبو عرايس وأمثاله هم فقط من يؤمنوا بتلك الفكرة. ولكن في الحقيقة لو غيرنا بعض التفاصيل فسنجد أن هذه الفكرة في جوهرها هي التي ألهمت الإسلام السياسي. فالفكرة الحاكمة لمشروع الإسلام السياسي هي أنه في حال ألتزم المسلمون (وغيرهم ممن أسعدهم ألحظ بالعيش في ديار المسلمين) بتعاليم الإسلام فان الخلافة أتية لا ريب، أستاذية العالم أتية لا ريب، والتقدم والازدهار اتيان لا ريب. التفاصيل التي تصل بين المقدمات والنتائج غالبا غير واضحة. فالاعتقاد هو أن الالتزام بالتعاليم الروحية سينعكس على الحياة المادية بطريقة أو باخري. وفي الحقيقة فبدون هذه العلاقة الخفية فإن الإسلام السياسي لا يختلف عن أي ايدولوجية سياسية أخري. ولو أردنا الإنصاف فنفس الانفصال بين الأسباب والنتائج يميز غلاة القوميون الذين يعتقدون ان التقدم والازدهار في الإمكان إن خلصت النوايا ونُقت الصفوف من كل دخيل. إثارة اي نقاش عن غياب الدراسات والفكر المتأني والقوانين المشجعة والضامنة لهذا الازدهار والنجاح هو تثبيط للهمم وتشكيك في النجاح القادم لا محالة.
الفكرة الثانية وهي فكرة الحداثة نفسها: يوجد تفسير لكل شيء. في مظهرها وفي معظم تطبيقاتها هي فكرة عظيمة. إيمان قطاع كبير من البشرية بالعلم أدي إلى تقدم غير مسبوق في كل مناحي الحياة لا داعي لتعديد مظاهره. نجاح هذه الفكرة العلميه أدي بالكثير من المتحمسين لمحاولة تطبيقها على كل شيء بدون إتباع الطريقة العلمية التي تستلزم تصميم التجارب وقياس النتائج، ثم العرض على المجتمع العلمي للنقاش والنقد. في غياب تلك الطريقة العلمية فإن محاولة إيجاد تفسير لكل شيء تنحدر سريعا إلى مانطلق عليه مجازا نظرية المؤامرة. فالمؤمن بنظرية المؤامرة هو في أغلب الأحيان شخص عنده فضول وعلى قدر من الذكاء يجعله يري علاقات بين أشياء لا علاقة بينها، ولكنه أيضا على قدر من الغرور تجعله مؤمن تماما أن تلك العلاقة التي رآها هو فقط هي الحقيقة ولا حقيقة سواها.
باع أبو عرايس في هذا المجال طويل فأي حدث، كوقوع انفجار ارهابي مثلا، يدفعه لمحاولة استنباط الإشارات الباطنية لهذا الحدث، وغالبا ما يجد ضالته في إعلانات التليفزيون. فذكر كلمة “الشريحة” في إعلان هو أشارة لشفرة الإله حورس، واسم منتج “بومب” هو أشارة للقنبلة التي ستنفجر قريبا. وهي كلها – بالطبع – تفسيرات تحتمل الصحة. ولكن من الممكن أيضا أن يكون الشخص الجالس بجواري في العمل عميل دسته أحدي الحضارات الفضائية التي تسعي إلى احتلال كوكب الأرض حيث أن الشمس تغرب بعد أن يترك المكتب دائما (ومن الغريب أنه يترك المكتب الساعة ٥ كل يوم!). في غياب أدلة منطقية على تلك العلاقات (بين الإعلانات والانفجارات، وبين زميلي في العمل والقوي المريخية) يترك معظم الناس تلك التفسيرات، ولكن هؤلاء الذين يتملكهم ذلك الإيمان المطلق بان هنالك سبب، واضح، وصريح لكل شيء يصدقونها. يجد هؤلاء، وهم كثيرون، صعوبة جمة في تصديق أن الأحداث الكبيرة بالذات لا يمكن أن تكون لها تفسيرات واضحة. فالثورة مؤامرة من دولتين أو ثلاث وبضع أشخاص، وانقطاع النور في طول البلاد وعرضها هو بسبب شخص يغلق سكينة الكهرباء أو مجموعة تفجر محولات الكهرباء. في كل تلك الحالات هم يرفضون التفسيرات الصعبة أو المعقدة (أن هناك أزمة اقتصادية هي السبب في عدم صيانة المحطات و ندرة الوقود اللازم لها، أو أن هناك عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية كثيرة أدت إلى قيام تلك الثورة).
قد ينتبه القارئ الفطن الآن إلى التعارض بين تلك الفكرتين. فالإيمان بالتفسيرات الغيبية يتعارض – ظاهريا – مع الإيمان بوجود تفسير لكل شيء. ولكن شخصيات مثل أبو العرايس تجسد كيف نجحت مجموعة كبيرة من مجتمعاتنا في المزج بين الفكرتين بأن أخذوا من الفكرة العلمية قشورها فآمنوا بوجود أسباب لكل شيء بدون السعي لدراسة تلك الأسباب واكتفوا بنسبة تلك الأسباب لقوي غيبية ليس لهم عليها من سلطان، وبالتالي فلا مسئولية لهم عن أفعالها. وإن فاجئك أن فكرتين متعارضتين يمكن الجمع بينهما في شخص واحد، فتذكر أن أوزوريس وست كانوا في الأصل أخوة من ام واحدة