مجزرة بورسعيد بين الشمولية ونظرية المؤامرة

المصدر: المصري اليوم

تعد الشمولية من أبرز وأهم الظواهر السياسية والأيديولوجية التى ظهرت على مدار القرن العشرين فى أشكال وقوالب مختلفة تموج من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين حيث الماركسية اللينينية والفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والناصرية المصرية. وإذا كان من الصعب الوقوف على تفسير جامع شامل للشمولية كمصطلح سياسى فإننى أعتقد أن التعريف الذى وضعه إتحاد الشباب الليبرالى المصرى فى بحثه المعنون “المسألة المصرية وأصولها” هو تعريف دقيق يسهل على القارىء إستيعاب المقصود منه بِيُسْر. فقد عرَّف البحث المشار إليه الشمولية على أنها: ” تبدأ بحركة فكرية وتنظيم سياسى ثم تتحول – حال نجاحها – إلى نظام سياسى” وأنها (أى الحركات الشمولية) “تنطلق جميعاً من رفض الهوية الفردية حيث ترى الوجود الإنسانى منقسماً إلى كيانات أو هويات جمعية مجاوزة للأفراد المكونين لها بحيث يكون كل من لا ينتمى للكيان الذى تؤسسس له الحركة الشمولية عدواً يجب التخلص منه أو إستعباده”. كما يوضح ذلك البحث المهم أن الهدف الأسمى للحركات الشمولية ليس مجرد البقاء وإنما تحقيق “المجد والتقدم والكرامة أوما شابه” حيث تسعى هذه الحركات (فى حالة وصولها للحكم) إلى فرض قناعاتها وأفكارها على المحكومين فرضاً. وما يعنينا فى هذا المقال ليس البحث عن تعريف الشمولية بقدر ما هو محاولة التعرف على أسباب تلك العلاقة الوثيقة بين الشمولية كمفهوم ومنهج من جهة ونظرية المؤامرة التى يعتنقها قطاع كبير من المتأثرين بهذا النهج من جهة أخرى ثم طرح تساؤلاً حول مدى إنطباق هذا النهج على الذهنية الثورية المصرية فى تناولها لمجزرة ستاد بورسعيد الشهيرة والحكم الصادر بشأنها.

إن الطريقة التى تعاملت بها الذهنية الثورية المصرية مع مجزرة بورسعيد تثير شكوكاً حوى مدى تأثر هذه الذهنية – بوعى أو بدون وعى – بالنهج الشمولى

إذا كانت خصائص أنظمة الحكم الشمولية على إختلاف مشاربها تتباين بدرجة كبيرة وتختلف فيما بينها إلا أن السمة المميزة للشمولية كمنهج تقوم على سحق الحرية الفردية بما فيها حرية الخيار الإقتصادى والسياسى بحيث يذوب الفرد فى الجماعة كليةً وتذوب المؤسسات والأحزاب فى الجماعة و يتم العمل على إعادة صياغة الوعى والقيم الأخلاقية والثقافية والإجتماعية بل والتاريخية ومن أبرز الأمثلة على ذلك إنكار هتلر لوحدة الجنس البشرى وتعريفه للإشتراكى – فى إحدى خطبه عام 1922– على أنه ذلك الذى يفهم النشيد الوطنى الألمانى على أنه لا يوجد فى العالم شيء أرقى من ألمانيته وشعبه وأرضه. إن هذه الوحدة الأيديولوجية التى تصبو إليها الذهنية الشمولية تؤدى فى النهاية إلى إقصاء وإرهاب بل وتخوين كل من يخرج عن إطارها مستخدمة فى ذلك عنف الجماعة القائم على أسس أيديولوجية خالصة. كما أنه من نتائج هذه الوحدة الفكرية أن الذهنية الشمولية تسيطر عليها نزعة أخلاقية مثالية تجنح إلى النرجسية والتطرف والتعصب بحيث ترى العالم كقوى خير وشر أو كصديق وعدو أو كأبيض وأسود ومن هنا يمكن فهم مبدأ البلاشفة المعروف “من ليس معنا فهو ضدنا” كما يمكن تفسير مقولة هتلر “في صراعنا يمكن أن تكون هناك نتيجة واحدة فقط ، إما أن يعبر العدو فوق جثثنا وإما أن نعبره نحن”.
يترتب على ما تقدم أن الذهنية الشمولية تبقى– فى غالبية الأحوال – أسيرة الوهم والشك النابع من الخوف من تآمر الأعداء أو قوى الشر أو قوى العمالة الخارجية أو قوى الرجعية كما وصفها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أو القوى الصهيونية والإستعمارية التى يرى الإخوان المسلمون أنها وراء حل الجماعة فى عام 1948 بالتحالف مع النقراشى باشا لمنع الإخوان من إبادة إسرائيل أثناء حرب فلسطين!
إن أخطر ما يترتب على ذلك الإعتناق الأيديولوجى لنظرية المؤامرة هو تجاوز الذهنية الشمولية للوقائع الملموسة والعوامل الثقافية والإجتماعية والتاريخية المختلفة بما يؤدى إلى إختزال الأحداث كافة فى شكل مؤامرة كبرى ليس مطلوباً سوى البحث عن منفذيها وتفاصيل تنفيذها دون أن يكون هناك أية مجال لتحرى وقائع الحدث ذاته أو على الأقل التعامل معه بحيادية.
إن الطريقة التى تعاملت بها الذهنية الثورية المصرية مع مجزرة استاد بورسعيد الشهيرة – والتى راح ضحيتها 74 مشجعاً ممن ينتمون إلى مجموعة ألتراس أهلاوى فى أعقاب مباراة كرة قدم بين النادى المصرى والنادى الأهلى على إستاد بورسعيد – تثير شكوكاً حوى مدى تأثر هذه الذهنية – بوعى أو بدون وعى – بالنهج الشمولى. إن هذا الشك يتحول إلى قلق إذا ما وضعنا فى الإعتبار إحتمالية وصول أى من التيارات الثورية إلى مقاعد الحكم فى مرحلة لاحقة.
لقد تبنت الذهنية الثورية المصرية – أو على الأقل قطاع كبير منها – نظرية المؤامرة إزاء مجزرة ستاد بورسعيد حيث توصل هؤلاء إلى النتيجة أولاً وهى وجود مؤامرة ثم راحوا يبحثون عن مبررات وتفاصيل المؤامرة ومن ورائها. وقد تعددت تلك المبررات والتفاصيل فمِن قائلٍ بتعمد مدير أمن بورسعيد عدم حضور المبارة إلى متشكك حول سبب عدم تأمين القوات المسلحة للمبارة إلى مرتاب من إطفاء أنوار الإستاد مبكراً وإغلاق أبواب الخروج إلى آخر هذه السلسلة اللانهائية من الشكوك.فى 9 مارس 2013 أصدرت محكمة جنايات بورسعيد حكمها النهائى بمعاقبة 21 متهماً بعقوبة الإعدام شنقاً وكذلك بمعاقبة 5 متهمين بالسجن المؤبد لمدة 25 عاماً و6 متهمين بالسجن المشدد لمدة 15 عاماً من بينهم مدير أمن بورسعيد سابقاً ورئيس قسم شرطة البيئة والمسطحات المائية ببورسعيدو6 متهمين بالسجن لمدة 10 سنوات ومتهم واحد بالحبس لمدة عام مع الشغل و4 متهمين بالسجن لمدة 15 عاماً ومتهمين اثنين بالسجن لمدة 5 سنوات وبراءة بقية المتهمين في القضية. لم تتوقف الشكوك لدى الذهنية الثورية بصدور هذا الحكم ولم يتم الإنتظار لحين نشر حيثيات الحكم لدراستها بل إتسعت دائرة الشكوك حيث أصدرت حكومة ظل الثورة بياناً أكدت فيه أن القاتل الحقيقى مدبر”المؤامرة” حر طليق يستمع الآن للحكم وهو يتناول الفسدق والسودانى! كما نشرت جريدة الوطن بعددها الصادر فى 10 مارس 2013 تعليق إتحاد شباب الثورة حيث أكد عضو المكتب التنفيذى للإتحاد أن الجناة الحقيقيين وأعضاء “المؤامرة” لم يقدَّموا للمحاكمة إلى الآن ولم يصدر حكم ضدهم. كما نشرت جريدة البديل بتاريخ 9 مارس 2013 على لسان المتحدث باسم حركة 6 إبريل”الجبهة الديمقراطية” أن الحكم “مهزلة لن يقبل بها أحد” و “أن الحركة ستكون فى الصفوف الأولى مع غضب الألتراس وتنفيذه لأى شئ هم يريدون لأن الغضب الآن غضب شعبى وليس غضب مجموعة”.
ليس معنى ما تقدم إنكار وجود مؤامرة أو تخطيط محكم للأحداث فذلك يظل إحتمالاً وارداً. ولكن هذا التعامل الذهنى مع الواقعة المستسلم تماماً للمؤامرة من شأنه تجاوز الكثير من الوقائع الملموسة التى تستحق التوقف أمامها بل وتستحق التأمل لكونها تمثل مؤشرات خطيرة. البداية كانت فى فبراير 2008 حيث قامت مجموعة ألتراس أهلاوى بإحراق مشجع يدعى محمد عبد المولى فى أعقاب مباراة كرة سلة بين الأهلى والزمالك فى وقد رد ألتراس زمالك لاحقاً بإقتحام وتكسير بوابات النادى الأهلى إثر منعهم من دخول مباراة كرة يد.
أما بعد قيام الثورة المصرية ففى غضون فترة لا تتجاوز العام وقعت عدة وقائع هامة منها قيام جماهير الزمالك بإقتحام ملعب إستاد القاهرة أثناء مباراة الزمالك المصرى والإفريقى التونسى وقد تم الإعتداء على لاعبى وجهاز النادى الإفريقى التونسى كما تم تحطيم بعض منشآت إستاد القاهرة. كما تكرر سيناريو مشابه أثناء مباراة الإتحاد ووادى دجلة فى الدورى العام المصرى حيث إنتهت الأحداث بقطع فى أذن الحكم المساعد. وفى أثناء مباراة الأهلى وكيما أسوان فى كأس مصر وقعت إشتباكات بيت ألتراس أهلاوى والأمن المركزى المكلف بحماية المدرجات وقد نتج عن الأحداث 118 مصاباً ناهيك عن تحطيم العديد من السيارات والمنشآت. أما جماهير النادى الإسماعيلى فقد سبق لها الإشتباك مع الأمن وتحطيم منشآت إستاد المقاولون العرب اثناء مباراة فريقهم مع نادى المقاولون كما تكرر سيناريو مشابه فى أثناء مباراة أخرى للنادى الإسماعيلى مع الإتحاد السكندرى. أيضاً قامت جماهير النادى الإسماعيلى بتنفيذ تهديدها للإتحاد المصرى لكرة القدم بإقتحام مبارة الإسماعيلى والمصرى فى حالة إقامتها بدون جمهور وهو نفس ما فعلته جماهير الزمالك أثناء مباراة فريقها مع إتحاد الشرطة. أما فى طنطا فقد قامت جماهير المحلة بإقتحام ستاد المحلة إعتراضاً على إحتساب حكم اللقاء لهدف لصالح النادى الأهلى وقد تمكنت قوات الجيش من السيطرة على الموقف. أما قبل مباراة المصرى والأهلى المشئومة فقد تزايدت حدة التوتر بين جماهير الفريقين عبر مواقع الإنترنت ولعل أخطر مؤشر فى تلك المشادات كان ما حمل فى طياته شبهة تهديد بالقتل حيث جاء فى تدوينة لأحد مؤسسي صفحة رابطة عشاق النادي المصري البوسعيدي وهو نفسه مدير ألتراس مصراوي عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي تويتر كتب فيها ”رسالة إلى كل أهلاوي .. لو جاى على بورسعيد اكتب لأمك وصية”.

إن كافة ما تقدم من وقائع عنف ملموسة تكللت بشبهة تهديد بالقتل قد تؤدى عقلاً ومنطقاً إلى كارثة بورسعيد. ولذلك يبدو لى أن تجاهل الذهنية الثورية لمدلول وقائع العنف الملموسة وإرتكانها فقط إلى الشبهات من شأنه تعميق دائرة العنف البغيض سواء تم ذلك مباشرة بتسييس الذهنية الثورية لجماعات الألتراس أو غير مباشرة بتشكك الذهنية الثورية فى أحكام القضاء وإرتمائها فى أحضان دائرة الغير ملموس أو المشتبه فيه أو المحتمل. المطلوب إذن قبل كل شىء هو الإعتراف بوجود عنف ثم التوقف أمام العنف وتأمل أسبابه ثم التعامل معه بالبحث عن علاج أو حلول ليس من بينها بكل تأكيد العنف ضد الدولة ومؤسساتها

كريم عماد